لنتذكر كيف انتعشت آمالنا بنجاح الديمقراطية التركية قبل شهرين عندما ارتقى حزب كردي لا يتوقف عن الدعوة الصريحة للانفصال العرقي، وأصبح ممثلاً في البرلمان عن طريق الانتخاب، وكم بدا هذا التحوّل محبطاً لخطط الرئيس رجب طيب أردوغان لإقامة حكم رئاسي على النمط الروسي. وظهر وكأن حزبه يقبل لأول مرة منذ ارتقائه إلى سدّة الحكم عام 2002، المشاركة في ائتلاف حكومي. ولكن، سرعان ما تلاشت هذه الآمال، وقد تم تنظيم الانتخابات التي نتحدث عنها في 7 يونيو الماضي، إلا أن أردوغان ما لبث أن تجاهل نتائجها، ولم يسمح لحزبه الفائز فيها «حزب العدالة والتنمية» بتشكيل حكومة ائتلافية جديدة، وعندما طلب من رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو تشكيل حكومة مصغرة بمشاركة القوميين، فربما كان الهدف الوحيد من وراء ذلك هو السعي لتنظيم انتخابات جديدة خلال الخريف المقبل، ويحمل هذا الإجراء في طيّاته ما هو أسوأ مما قد يبدو في ظاهره، لأن أردوغان، وفي إطار سعيه لتقويض نتائج الانتخابات، سيحتاج إلى كسر التحالف القائم بين الليبراليين الأتراك والأكراد، الذي ساعد «حزب الشعب الديمقراطي الكردي» في الوصول إلى البرلمان. وكان من اللافت للانتباه، قرار أردوغان، بعد طول تردد، بالسماح للطائرات الحربية الأميركية التي تشن غاراتها على تنظيم «داعش»، باستخدام قاعدة «أنجرليك» الجوية.. وفي الوقت ذاته، جددت تركيا ضرباتها الجوية ضد المتمردين الأكراد الذين سارعوا إلى إلغاء قرار وقف إطلاق النار الذي سبق لهم إعلانه من جانب واحد في عام 2013. ويقول المنتقدون إن أردوغان أثبت أنه رجل غير ديمقراطي، ويمكن القول بدلاً من ذلك بأنه «سياسي لامع»، ففي عام 2009، أطلق مبادرة عرفت باسم «الانفتاح على الأكراد» لمجرّد أنه كان يريد أن يضمن أصواتهم لنفسه ولحزبه، ومن المعروف أن أكراد تركيا يشكلون أحد المكونات المهمة لـ«حزب العدالة والتنمية» المحافظ، وبات من الضروري بالنسبة له نزع فتيل الصراع معهم من دون أن يستثير حفيظة قاعدته الشعبية ذات التوجهات القومية. أما الآن، فقد بات الطريق أكثر تعرّجاً وتعقيداً أمامه، ولكنه بقي محتفظاً ببعض الأمل في أن يعود الناخبون الأكراد الذين صوتوا ضد حزبه في الانتخابات الأخيرة، إلى دعم جهوده الهادفة إلى وضع دستور جديد. إلا أن صلاح الدين دمرتاش زعيم «حزب الشعب الديمقراطي الكردي» أبدى رفضاً قاطعاً لفكرة دعم الدستور الرئاسي المقترح ودعا إلى التعامل مع المرشحين الأكراد في البرلمان باعتبارهم يمثلون حزباً قائماً بذاته، ووجه نداء إلى الأقليات الإثنية التركية لتأييده في مسعاه لإجهاض خطط أردوغان لإحلال نظام أوتوقراطي سلطوي عن طريق الانتخاب. ويبدو أن «دمرتاش» نجح في هذا المسعى، فقد تجاوز حزبه عتبة المقاعد العشرة لدخول البرلمان، ليختطف بذلك من الرئيس الأغلبية البرلمانية القوية اللازمة للمصادقة على مشروع الدستور الجديد الذي يتيح له التفرّد بالسلطة المطلقة. وبدلاً من أن يعترف أردوغان بهزيمته ويفسح المجال أمام تشكيل حكومة ائتلافية عمد إلى تجاهل نتائج الانتخابات، ويبدو أنه يفضل الآن وضع كل القوى السياسية أمام خيار إجراء انتخابات جديدة تضمن له محاولة إعادة «حزب الشعب الديمقراطي الكردي» إلى ما دون عتبة المقاعد العشرة وإخراجه من البرلمان. وكان من حسن حظ أردوغان أن عملية السلام مع الأكراد كانت تتميز دائماً بالضعف والهشاشة، فقد بقي المتمردون المسلحون التابعون لـ«حزب العمال الكردي» ميالين للجوء إلى التكتيكات ذات الطابع الإرهابي لإثبات وجودهم، وهم يحملون أيديولوجيات مشوشة على الطريقة الماركسية، وكانوا يرفضون كل المقترحات التي تدعوهم لإلقاء السلاح، وبهذا، وجد ديمرتاش نفسه أمام وضع صعب، فإما أن يدعم الحكومة في حربها ضد أبناء جلدته الأكراد، أو أن يصطف إلى جانب الإرهابيين، وكلا الخيارين سيلحق الضرر بموقفه السياسي، ولو نجحت محاولات أردوغان للعب على ورقة الصراع مع الأكراد لتقوية سلطته الرئاسية، فسيكون ذلك لغير صالح الديمقراطية التركية. ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»