نحن أبناء جيل عاش ثلاث مراحل مختلفة تماماً، فقد ولدنا في نهاية حقبة ما قبل النفط وعشنا طفولتنا دون أجهزة تكييف، إذ كنا ننام مع غروب الشمس فوق سطوح المنازل ونستيقظ مجبرين مع شروقها لتفادي حرارتها الشديدة، حيث تتعجب الأجيال التالية كيف تحمّلنا ذلك. وشهدنا في صبانا وشبابنا فترة النفط عندما دخلت منازلنا لأول مرة أجهزة التكييف في أواسط الستينيات لنفاجأ ونفرح كثيراً بهذا الجهاز السحري الذي يحول الصيف إلى شتاء! وقد سمعت بعض كبار السن في ذلك الوقت يدعون بالخير لمخترعه ولمصنعيه، وبالتالي، فإننا أكثر جيل تفهماً لما تعنيه القرارات الخاصة بالمحافظة على مصادر الطاقة. ومن ثم نعيش حالياً فترة أزمات العالم الاقتصادية في الطاقة والغذاء والمياه والبيئة، بحيث تتجه الأنظار بصورة صحيحة للحفاظ على هذه الموارد وحسن استخدامها، مما يتطلب تغيير السياسات وإعادة النظر في الممارسات السابقة. وفي بداية عصر النفط حرصت قيادة الدولة برئاسة المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، على توفير مصادر الطاقة للناس جميعاً بأسعار تناسب وقدراتهم في ذلك الزمن، وكذلك الحال في بقية دول مجلس التعاون الخليجي. وعندها كانت أسعار النفط في الأسواق الدولية أقل من دولارين للبرميل، حيث استمر ذلك حتى منتصف السبعينيات، مما يعني أن سعر البنزين عندها كان يتناسب وأسعاره في السوق الدولية، في الوقت الذي كان الاستهلاك المحلي يشكل 5% فقط من إنتاج الدولة من النفط. ورغم تضاعف أسعار النفط بعد الطفرة النفطية الأولى في عام 1975، إلا أن الدولة أخذت على عاتقها دعم الأسعار، أولا بسبب مستوى الرواتب والأجور في ذلك الوقت، وثانياً لأن الدعم لم يكن مرهقاً للميزانية بسبب تضاعف العائدات وتدني مستوى الاستهلاك المحلي. ومثل هذا الوضع لم يعد قائماً، فأولاً يتذبذب سعر برميل النفط باستمرار ليصل منذ أكثر من عام إلى 147 دولاراً وليستمر في التذبذب من جديد حالياً. وتضاعفت قبله الرواتب والأجور ليس في القطاع الحكومي فحسب، وإنما في القطاع الخاص أيضاً. أما ثانياً، فقد ارتفع الاستهلاك المحلي من الوقود ليصل إلى نسبة 20% تقريباً من إنتاج الدولة من النفط، وهي نسبة كبيرة للغاية. وبالتأكيد، فإن جزءاً من هذه الزيادة جاء بفضل التقدم الاقتصادي الذي حققته الإمارات، إلا أن جزءاً كبيراً آخر حدث بسبب الاستهلاك المفرط والناجم عن تدني الأسعار. وإذا ما استمر الوضع على هذا الحال، فإن الاستهلاك المحلي سيستحوذ على أكثر من نصف إنتاج الدولة من النفط في وقت قريب. وإذن ما العمل؟ كان لابد من معالجة هذا الأمر قبل أن يستفحل، ومن هنا جاء القرار الحكيم والشجاع بتحرير أسعار الوقود لإلزام الجميع بعقلانية الاستهلاك، حيث إننا نعيش يومياً استهتار البعض بالأسعار الزهيدة، إذ نرى من يقود سيارته لساعات دون هدف محدد، فقط لقتل الملل على حد زعمه، وذلك بدلاً من التوجه إلى الصالات والنوادي الرياضية للمحافظة على الصحة العامة أو الاستمتاع بممارسة أية هواية مفيدة بما يتناسب وحرص الدولة على المحافظة على الموارد وفي الوقت نفسه توفير الحياة الكريمة للجميع، فالمواطَنة ليست أخذاً فقط، وإنما هي إخلاص وأخذ وعطاء، ولنا في شهدائنا الأبرار أبرز معالم العطاء والتضحية. والقلة المنتقدة لا تستوعب هذه الحقائق والبيانات، إما لأن بعضهم يعتقد أن هذه الثروات الطبيعية تأتي بسهولة ولا حدود لنهايتها، وإما أن البعض منهم يحاول استهلاك حصته وحصة غيره من الأجيال القادمة دون أدنى مسؤولية، وإما أنهم تحريضيون يحاولون استغلال محدودية وعي البعض أو القليل من الصعوبات عند البعض الآخر لتشويه الحقائق وتسخيرها لأجنداتهم غير الوطنية، متناسين تطور التعليم والوعي المرتفع عند المواطنين وحبهم لقيادتهم ووطنهم. أما وجهة النظر العلمية والمهنية فتؤكد صحة هذا القرار الذي ستترتب عليه نتائج اقتصادية وتنموية وبيئية كبيرة لمصلحة الوطن ولتوفير حياة وظروف معيشية أفضل للمواطنين والمقيمين وخصوصاً أن الدولة انتهجت طريق التدرج لتحرير الأسعار. ونختتم المقالة بهذه النتيجة الإيجابية ليس من باب الاجتهاد، وإنما من باب المتابعة والبحث والمهنية التي لابد أن تكتسي بها حياتنا وقراراتنا في جميع المجالات ليكون عملنا ناجحاً ومستقبلنا واضحاً.