يصعب استبعاد أثر نتائج انتخابات تركيا الأخيرة في قرار حكومتها شن حرب مزدوجة على كل من تنظيم «داعش» و«حزب العمال الكردستاني». غير أنه يصعب، في الوقت نفسه، اختزال قرار كبير ينطوي على تداعيات سياسية وأمنية خطيرة في رد فعل على نتائج انتخابات نيابية حتى وإن كان «حزب العدالة والتنمية» الحاكم يُحمِّل الأكراد مسؤولية حرمانه من الأغلبية المطلقة في البرلمان للمرة الأولى منذ وصوله للسلطة. فقد كانت الحكومة التركية بحاجة للدفع بقطعة كبيرة على رقعة شطرنج الشرق الأوسط الملتهبة، بعد أن اكتفت بتحريك قطع صغيرة لفترة طويلة. وكانت الدولة التركية بحاجة للخروج من حالة جمود نسبي خيمت على سياستها الخارجية بينما تحدث تحولات كبيرة في المعادلات الإقليمية الدولية. ظلت تركيا قادرة على تجنب الانخراط العسكري المباشر في صراعات المنطقة، والبقاء خارج دائرة القتال الآخذة في التوسع، مع الاحتفاظ بموقع مؤثر بدرجة أو بأخرى في التعاملات الإقليمية. لكن هذا الموقع صار مُهدَّداً بفعل سرعة التحولات الإقليمية وتداعياتها الدولية. وليس ممكناً إغفال أثر هذا التهديد في تغيير سياسة تركيا تجاه مسألتين محوريتين، أولاهما القضية الكردية التي سعت منذ سنوات لحل سلمي لها عبر مفاوضات مع «الكردستاني» أنهت حرباً طويلة ضده. لكن هذه الحرب استؤنفت الآن بعد أن تفاقم قلق تركيا من تنامي نفوذ «الكردستاني»، والدعم الغربي لـ«وحدات حماية الشعب»، التي تُعدها امتداداً سورياً له. أما المسألة الثانية فهي ربط انضمامها للتحالف الدولي الذي أعلنته واشنطن ضد «داعش» بإقامة منطقة آمنة في شمال سوريا. وجديد السياسة التركية الآن هو التفكير في هذا الربط بطريقة أخرى. فقد أعادت تركيا صوغ موقفها بشأن الحرب ضد «داعش»، عبر مراجعة تصورها للمنطقة الآمنة، وربط مشاركتها في الحرب بشن أخرى موازية ضد «الكردستاني». وفي ضوء ذلك، يمكن تلخيص جوهر التغير في سياسة أنقرة في مقايضة الالتحاق بالحرب على «داعش»، بما في ذلك فتح قاعدتي «أنجرليك» و«ديار بكر» للطيران الأميركي، بالحصول على ضوء أخضر حتى إذا كان مقروناً بتحفظ لشن حرب موازية ضد «الكردستاني»، ورفع يد الغرب عن حماية الأكراد عموماً. ويقترن ذلك بخفض سقف طموح تركيا إلى إقامة المنطقة الآمنة. كانت تركيا تتطلع لمنطقة آمنة محمية دولياً وواسعة النطاق لا تقل مساحتها عن 7 آلاف كيلومترات مربعة، تمتد على معظم حدودها مع سوريا، البالغ طولها 911 كيلومتراً. كما سعت لأن تكون هذه المنطقة الآمنة تتمتع بغطاء جوي قوي، ويُحظر على طائرات نظام بشار الأسد الطيران شمال خط عرض 35.5. كما طمحت تركيا لإنشاء هذه المنطقة بموجب قرار من «الناتو»، نظراً لعدم إمكان استصداره من مجلس الأمن الدولي بسبب موقف روسيا. وقام المشروع التركي الأساسي لهذه المنطقة على أساس تحقيق هدفين: حصول المهاجرين والنازحين السوريبن على ملجأ ومساعدة إنسانية وحماية من الهجمات فيها، وإقامة قاعدة قوية للمعارضة «المعتدلة» ومراكز لتدريبها وانطلاقها. غير أن هذا الطموح تراجع وصار محصوراً في جزر آمنة «بحكم الأمر الواقع» في مساحات محدودة، وفي حدود ما تستطيعه تركيا، سواء بالاعتماد على طيرانها وحده أو بالتعاون مع دول أخرى إذا تمكنت من إقناعها بذلك، علماً بأن أياً من دول «الناتو» لا تبدي استعداداً لمثل هذا التعاون. والمهم الآن هو أن هدف هذه الجزر الآمنة اختلف وصار يتركز في عزل المناطق الكردية عن بعضها، وإفشال تجربة الأكراد في الحكم الذاتي في المناطق التي سيطروا عليها في شمال سوريا، ومن ثم إضعاف «الكردستاني» الذي أنعشه تمددهم في هذه المناطق. وهكذا يبدو استئناف تركيا الحرب على هذا الحزب، ودعم موقفها في هذا الاتجاه عبر إعلان حرب موازية ضد «داعش»، هو ما يربط التغير في سياستها بنتائج الانتخابات التي قوَّت مركز الأكراد في نظامها السياسي، لكن دون أن تكون هذه النتائج هي الدافع الوحيد وراء تحول يضعها في قلب نيران المنطقة المشتعلة أكثر من أي وقت مضى.