كيف تكوَّن المشهد؟ سيدخل تحرير عدن في شهر يوليو 2015 تاريخ المدينة، بل تاريخ اليمن، وربما تاريخ الجزيرة العربية. فقد كان قَدَر تلك المدينة أن يقاتل أهلها دفاعاً عن أنفسهم أو تحريراً لها ثلاث مرات في العقود الأخيرة: قاتلوا لتحريرها من البريطانيين في النصف الثاني من الستينيات، وقاتلوا عساكر علي عبدالله صالح عام 1994 الذي كرَّهَهم في الوحدة وجعلهم يترحّمون على عهد البؤس الاشتراكي، وقاتلوا أخيراً أربعة أشهر لدحْر مليشيات الحوثي وأَمنيات وعسكريات علي عبد الله صالح. بعد عدن تتقدم المقاومة، ويتقدم الجيش الوطني اليمني، بمساعدة وتدخُّل قوات التحالف، لتحرير مدن وبلدات جنوب اليمن وبخاصةٍ المحافظات الأربع التي دخل إليها الحوثيون. وقد صارت هذه القضية مسألة وقت منذ سقوط قاعدة «العَنَد» الاستراتيجية، بمساعدة وتدخُّل قوات التحالف العربي أيضاً. ما بعد التحرير بالتوازي مع تحرير عدن وباقي محافظات الجنوب والوسط جبلاً وساحلاً وصحارى تشمخ عدة واجبات وتحديات. وأولها العمل الإنساني والإغاثة. فقد كانت الشهور الأربعة قاسيةً جداً على المدينة وما وراءها. وبسبب الاقتتال، كما بسبب الاستهداف للمرافق الصحية والخدمية من جانب الحوثيين وحلفائهم. إنما الذي لا يجوز تجاهُلُهُ أنّ مدينة عدن، والمحافظات الأُخرى الجنوبية أو الشمالية ما كانت على ما يرام في المرافق الصحية والتعليمية والخدمية الأُخرى. وعلةُ ذلك فقر البلاد من جهة، والفساد المستشري الذي كانت الموارد القليلة تتضاءل تحت قبضته. ولذا فإنّ العاملَ الإنساني والوطني والتنموي في الصحة والتعليم والنقل سيظل على مدى العقد القادم أكثر أولويةً لإحلال شيء من السَويّة المقبولة في شؤون البلاد والعباد. ولا يخفى أنّ ما بين 15 و20% من الشعب اليمني، وعلى مدى العقود الماضية، إنما كان يبحث عن سبل العيش والبقاء في المملكة العربية السعودية وبلدان الخليج الأخرى. تشكيلات المقاومة ولنمض إلى المشكلات الأُخرى التي لا تقلُّ إلحاحاً. فمن الواضح أنّ الذين قاتلوا في عدن وصمدوا في وجه عسكر عفّاش والحوثي هم عدة فئاتٍ وليسوا فئةً واحدة. فالذين كانوا جاهزين نسبياً هم من الحراك الجنوبي مسلحين وغير مسلحين، وكانوا قد تظاهروا وتحشّدوا طوال السنوات الماضية للمطالبة بالاستقلال وبالفيدرالية، وبالعنف أو بالسلم. وقد انضمّ إليهم بعد أسبوعين أو ثلاثة متطوعون إسلاميون أو وطنيون نظّمهم ضباط متقاعدون أو ممن طردهم علي عبد الله صالح من الجيش عام 1994. وقد قيل الكثير عن الخلايا الحوثية النائمة، وعن الجنوبيين الانفصاليين الذين اعتبروا أنفسهم حلفاء للحوثيين. وفي كل ذلك مبالغات شديدة. وإنما الواضح والصحيح أنه دخل عدن ومدن الجنوب والوسط حوالى العشرة آلاف إلى خمسة عشر ألفاً من الحوثيين، يدعمهم أو ينسّق معهم حوالى الثلاثين ألفاً من جيش صالح وقوات الأمن الخاصة أو المركزية والأجهزة الاستخبارية الأُخرى. عفّاش والحوثيون وبالإضافة إلى قاعدة «العَنَد» ومراكز معسكرات الجيش، فإنّ قوى عفاش الأمنية ساعدت الحوثيين على التمركز بأشكال ملائمة يمكن الدفاع عنها. وقد كان همهم الاستيلاء على الميناء والمطار بعدن، وعلى الطرق المؤدية من عدن وإلى عدن من المحافظات الأُخرى. وكانت نقاشاتٌ محتدمةٌ قد جرت بين الحوثيين أنفسهم والإيرانيين وعفّاش وأولاده بعد الاستيلاء على عَمران، والزحف باتجاه صنعاء: هل يستولون على شمال اليمن ويكتفون بذلك، أم يذهبون للجنوب أيضاً؟! وكانت وجهة نظر عفّاش أنّ عدن وليس تعز تشكِّل وجعة رأس، وإذا أمكن ضبطها يمكن الاستيلاء على اليمن بكامله. وتردد الإيرانيون الذين كانوا قد أقاموا علاقات مع فريق علي سالم البيض من الحراك الجنوبي، ونكايةً بالمملكة العربية السعودية فقد قدّموا الدعم للبيض في مشروعه الانفصالي. ثم قرروا وطلبوا من الحوثي مشاركة عفاش في الاستيلاء على عدن والجنوب بداعي مقاتلة «القاعدة» والإرهاب. وقتها قال ظريف لوزراء من الخليج إنه تحدث مع كيري عن الحوثيين باعتبارهم قوةً فعالة في مكافحة الإرهاب، وما أبدى كيري اعتراضاً! وبعد أن كان الإيرانيون يرسلون المساعدات العسكرية للحوثيين من طريق إريتريا وميناء ميدي تهريباً، صاروا يأتون إلى جنوب اليمن من طريق آخر براً وبحراً، ومن طريق التسلل بالزوارق إلى موانئ المدن الساحلية بالجنوب أيضاً. وكانت القواعد الأميركية بالمحيط تراقب الحراك الإيراني المتزايد، فتتجاهل ما هو متجهٌ نحو شمال اليمن، وتضبط أحياناً ما هو متجهٌ نحو الجنوب! الطريق لتحرير عدن إنّ كلَّ تلك الخطط والتكتيكات التي كانت قد صارت علنية منذ احتلال عَمران، ما وضعت في حسابها ولو للحظة إمكان التدخل السعودي. وقد قال طرفان عربيان على الأقل للإيرانيين وللأميركيين: إنّ السعودية لا تتحمل استيلاء الحوثي على شمال اليمن، فكيف إذا كان الاستيلاء على اليمن كله ولصالح إيران؟! ولتوزيع الانتباه فقد انصرف علي عبدالله صالح بعد واقعة صنعاء إلى طمأنة الخليجيين إلى سيطرته على الموقف، وأنه متحالف مع الحوثيين من أجل ضبطهم، وسيكون هو أو ابنه الرئيس المقبل. بينما لجأت إيران للتهديد والتخويف عن طريق التظاهرات البحرية، وعن طريق تصوير الطائرات الكثيرة التي تنزل في مطار صنعاء حاملةً خبراء ووسائل اتصال وأموالاً ومعدات قتالية. وعلى أي حال، وما دمنا نتحدث عن تكون المشهد، فإنّ المقاومة العَدَنية بشتّى فئاتها ما استطاعت الصمود فضلاً عن التقدم في الشهرين الأولين. ثم بدأت قوى «عاصفة الحزم» توصل إليها المساعدات، وقام ضباط أتوا إلى عدن بالتنظيم وجمع الصفوف. وحوالى منتصف الشهر الثالث صارت القوى متكافئة بين الحوثيين والمقاومة. أما جيش عفاش فظلَّ موالياً له باستثناءات قليلة، لكنه انشغل بالدفاع عن قاعدة «العَنَد»، ولذلك اتهمه الحوثيون في أيامهم الأخيرة بعدن بالخيانة أو بالهرب أو الأمرين معاً. لقد كان تركيز المقاومة العَدَنية على المرفأ أو المرافئ والمطار. وما آتى هذا الجهد ثمراته إلا عندما بدأت الإمدادات تصل براً وبحراً بالرجال والعتاد. وما شاهده القادمون إلى عدن هو الذي دفع باتجاه الحديث عن ضمّ المقاومة إلى الجيش أو تحويلها إلى جيش منظم، خشية الفوضى أو أن تصبح ميلشيات مثل سائر مليشيات الحروب الأهلية. وهذه قضيةٌ ما وجدت حلاً إلى الآن. لكنّ الضمَّ أو الدمج في الجيش الوطني، يفترض وجود جيش (وطني)، بينما الواقع أن الجيش أفسدته في مراتبه العليا الولاءات للرئيس والقبيلة، وهو في بنياته السفلية يغلب عليه الزيود، بحيث ما وجد الحوثيون صعوبةً في إقناعهم بالانضمام إليهم (!). وكما في حالة سوريا، فالحرس الجمهوري هو المسلَّح والمدرَّب جيداً، أما البواقي المعدُّون لمصارعة إسرائيل والإمبريالية (!) فلا يمتلكون السلاح ولا التدريب. وما حصلت انشقاقاتٌ واسعةٌ في صفوف جيش عفاش، لكنّ الحكومة الشرعية استطاعت جمع ثلاثة ألوية، ستصبح ستة، وينبغي أن تصل إلى العشرة، وهذا في جنوب اليمن فقط. أما في الشمال فلابد من عشرين لواءً. والذي أراه أنّ النجاح في الجنوب سيغيّر من الأوضاع على الأرض، وليس بالنسبة للجيش فقط، بل وبالنسبة للقبائل. ذلك أنّ النجاح الحوثي أيقظ مصالح وعصبيات مذهبية لدى قبيلتي حاشد وبكيل، أكبر قبائل اليمن، وبخاصةٍ بعد ضرب زعماء حاشد من آل الأحمر من جانب الحوثيين وعلي صالح الحاقد عليهم للتنافس على الزعامة، لاعتباره أنّ زعامتهم ينبغي أن تكون بيده باعتباره منهم، ورئيس اليمن منذ عام 1979! 12 ألف قتيل أما الجيش الذي كان من المفروض منذ عام 2012 إعادة هيكلته، فقد تحطّم قسم كبير منه تحت وطأة ضربات طيران التحالُف. وقد كان عدد الجيش العامل أكثر من 150 ألفاً. بيد أنّ القوات التي يُعتمد عليها بحسب صالح وابنه أحمد لا يتجاوز عددها الستين ألفاً. وفي حين فقد الحوثيون اثني عشر ألف قتيل وجريح، فإنّ الجيش فقد أكثر من عشرين ألفاً بين قتيل وجريح أيضاً بسبب المعسكرات الضخمة التي يتمركز فيها، والتي ينال منها القصف أكثر. ويقدّر المراقبون الهاربين من الجيش والقصف بثلاثين ألفاً. ومهمة جمع هؤلاء شديدة العُسْر والصعوبة، إنما لابُدَّ منها. وفي موازاة ذلك لابد أيضاً من الاتكاء على الشرطة المحلية في المرحلة الأولى، والاتّكاء على إقامة أجهزة أمنية جديدة همها الأمن بالفعل، وليس إيذاء أعداء الرئيس السابق! من الجنوب إلى الشمال: ما انهار الحوثيون والعفاشيون في جنوب اليمن، وإنما في الشهر الثالث على أزمة عدن والجنوب، استطاعت المقاومة «التكافؤ»، ثم تفوقت بفضل الدعم القوي والزحوف والإنزالات من جانب دول التحالف. والذي أُقدّره أنهم لن يقاوموا بعد اليوم في الجنوب ما دامت قاعدة «العند» قد سقطت، وفقدوا مطار عدن وميناءَها وسيفقدون زنجبار والبلدات الأخرى. تحدي «القاعدة» إنّ الأمر الذي ينبغي حسمه الآن: السلوك مع جماعات القاعدة في الجنوب، فهم قد ساعدوا الناس في مواجهة الحوثيين، أما الجيش فقد كانت لهم معه «اتفاقيات» انسحب بمقتضاها من القتال في كل مكان أرادوا الوصول إليه! ومن الملاحظ أنّ الطائرات الأميركية من دون طيار توقفت شهرين فقط عن الإغارة على الإرهابيين، ثم عادت إلى سيرتها من قبل بالتنسيق بالطبع مع قوات التحالف. وأنا أرى أنّ «القاعدة» ينبغي ألا تُهادَن ولا تؤجَّلُ مكافحتها، ليس في الجنوب فقط، بل في الوسط أيضاً. وفي الوسط بالذات فهؤلاء قاتلوا مع قبائلهم وبخاصةٍ في محافظتي البيضاء والجوف. ولابد من الحكمة والاستيعاب بعد نزع السلاح. والذي يدعو للحذر الشديد، أنّ «القاعديين» هؤلاء، أغاروا على معسكرٍ للجيش الوطني الموالي للشرعية في حضرموت في منتصف شهر يوليو، فقتلوا عشرات الجنود، دون أن تُعرف الأسباب. والفرق بين الحالتين مع «القاعدة»، أنهم ليسوا من أهل المدينة في المكلا، وحضرموت، بينما هم من القبائل المقاتلة في البيضاء والجوف. و«القاعدية» داءٌ قاتلٌ مثل الزرقاوي و«داعش»، ومقاتلتها ضرورية في كل حين، حتى لا يزداد انتشار المرض أو يتسلل إلى الأذهان أنه يمكن العيش معها وإنْ في مناطق منفصلة. تحديات تحرير «الوسط» ولنمض إلى الوسط، أكبر مناطق اليمن، الممتدة من الجوف على الحدود مع السعودية إلى مأرب والبيضاء، ثم السير باتجاه الساحل إلى إب وتعز والحديدة. فهذه المنطقة الهائلة فيها أقل قليلاً من عشرة ملايين نسمة. ومحافظة تعز وحدها فيها أكثر من خمسة ملايين. وتأتي أهميتها من سواحلها البحرية، ومن جبالها وصحاريها العصية، ومن الثروات البترولية فيها، ومن وجود الجوف على الحدود مع السعودية. والحضريون والقبائل كلهم من الشافعية، باستثناء قلة معتبرة في الجوف انحازت كلها إلى الحوثيين، مع بعض بطون القبائل الانتهازية. سيكون القتال في مناطق الوسط -والذي بدأ بعد احتلال صنعاء مباشرةً- عنيفاً وقاسياً. ففي الجوف زيود وكانوا مستضعَفين وهم الآن شديدو الاعتزاز، وقد أكثروا -شأن «حزب الله»- من العسف والقتل، ولن يستسلموا، بل سيقاتلون ثم يرحلون إذا خشوا الإبادة. ويقاتل الحوثيون والعفاشيون في صرواح ومأرب منذ ستة شهور. وعلى رغم حسن التسليح، والإمدادات، وقلة الانشقاقات، فما استطاعوا الاستيلاء على آبار النفط بمأرب، على رغم استيلائهم على البيضاء بعد قتالٍ عنيفٍ مع القبائل و«القاعدة». لقد كانت غارات طيران التحالُف شديدة الكثافة في هذه المحافظات بالذات. ولذلك تمكنت مقاومة القبائل من الصمود بعد الانتكاسات الأُولى في البيضاء بالذات، وفي الجوف. والقضاء على الحوثيين في هذه المناطق يعني استحالة قيام دولتهم في الشمال، باعتبار أنّ البترول والكهرباء يأتيان منها. ولذلك فإنّ الاستيلاء عليها مفيدٌ في إرغامهم على القبول بالحلّ السياسي. حيرة في «الساحل» فإذا وصلنا إلى السواحل بدءاً بتعز، يبدو الموقف محيراً. إذ الحوثيون والصالحيون لا يُظهرون حرصاً شديداً عليها على رغم ضخامتها، وأنها مفتاح الساحل، وفيها ميناء المخا الذي يستخدمه الحوثيون في الإمداد الآن. والمقاومة تقول إنها سيطرت على 80 في المئة من المدينة. وقد يعود ذلك لأنّ أحد ألوية الجيش انحاز إليها منذ أربعة أشهر. وقد حاولت الألوية الأُخرى العفاشية القضاء عليه وتشتيته ولكن طيران التحالف حال دون ذلك. والمقاومة بتعز وإب فريقان: الإسلاميون والقبائل. ويضاف لذلك فريق وازن من الوطنيين المتطوعين. وما بدت تعز قادرةً على المقاومة في الشهر الأول، بسبب قلة التسليح والإقبال عليه. لكنها الآن تقف في الصدارة وتبدو مقاومتها موحَّدة، وقد تتحرر بالفعل خلال شهر أغسطس وتتبعها إب. أما في الحديدة فتنشط المقاومة التهامية. وهي لا تمتلك مجموعات كبرى أو وسطى، بل هي مجموعات صغيرة للكر والفر. ويحتاج إخراج الحوثيين من الحديدة إلى جهد كبير. إذ إنهم يرتزقون من الميناء مثلما يرتزق «حزب الله» من ميناء بيروت ومطارها. ثم إنه قريبٌ من باب المندب، الذي تطنطن إيران بالاستيلاء عليه وهو محاصَرٌ من بحرية التحالف. وقد ظلت قوات الجيش والأمن جميعاً موالية لصالح، وما قاومت استيلاء الحوثيين قليلاً غير الشرطة المحلية. وفي ظني أن تحرير الحديدة قد يأتي من تعز إذا لم يكن الإنزال البحري من السواحل ممكناً. إنني أتصور أنّ جبهة الجنوب ستهدأ خلال شهر، أما جبهة الوسط ساحلاً وجبلاً وصحارى، فستجد مستقراً في حدود شهر أكتوبر القادم. وينبغي إلى جانب الشرطة المحلية، ومَنْ يمسك الأرض، أن تعد الإدارة المحلية للخدمات، وأن تُعالج مشكلة الجيش اليمني في المناطق المحرَّرة من طريق إعادة من بقي إلى الثكنات، وصون حقوق المسرَّحين حتى لا تحصل مشكلة كالتي حصلت في تسريح القوات الجنوبية عام 1994. بعد الجنوب.. ما العمل؟ من الشمال إلى شمال الشمال: تختلف الآراء والتقديرات فيما ينبغي عمله بعد تأمين الجنوب والوسط فهناك من يقول: لابد من الزحف باتجاه ذمار وصنعاء من جهة، ومن الجوف باتجاه صعدة. وفي كل منطقة يجري الاستيلاء عليها، يُعاد الجيش للثكنات، ويُنزع السلاح من الحوثيين حسب قرار الأمم المتحدة 2216. وهناك من يقول إنه بعد تأمين الوسط، لابد من وقفة تعبوية وسياسية عند ذمار أو قبل ذمار. وعندها يُعادُ العرضُ السياسي على الحوثيين والعفاشيين. ووجهة نظر بعض الذين يعرفون صالحاً وولده، أنه سينتهز الفرصة ويدخل في الحل السياسي. ولكن على أي حال، فإنّ الحوثيين إن لم تنصحهم إيران سيظلون يقاتلون ويتسببون بخراب صنعاء كما تخرّبت عدن. والأمور في الشمال شديدة الخطورة، إذ مَنْ سيقاتل مع قوات التحالف على الأرض؟ بالطبع ليس المليشيات الجنوبية أو التهامية، بل قوات الجيش الموالية، والألوية الجديدة المتكونة. وستنضم قوى قبلية لها ثارات على الحوثيين من صنعاء وعَمران وحجّة. وسيقاتل الحوثيون بشراسة باعتبارها مناطقهم المذهبية من الناحية التاريخية على الأقل، وإلاّ فإنّ ثلث السكان بدواً وحضراً هم من الشافعية. وقد خاض الجيش اليمني مع القبائل ضد الحوثيين ست حروب كما هو معروف (2004-2010) وما استطاع إخضاعهم نهائياً. ولكنهم الآن منهكون إنهاكاً شديداً لأنهم انتشروا على مدى مساحة اليمن، وخسروا اثني عشر ألف قتيل وجريح، وأفراد الجيش (الزيود) الذين انضموا إليهم في الوسط والجنوب يهربون الآن إلى بيوتهم أو يحاولون العودة إلى ثكناتهم. فالطرفان إذن ينبغي أن يكونا أصحاب مصلحة في المُسالمة والمصالحة، والعودة إلى مخرجات الحوار الوطني. حوافز الحوثيين! إنما المشكلة فيما يتعلق بالحوثيين أمران: أنهم جماعة عقائدية، وأنهم تولوا السلطة واستمتعوا بمناعمها. ولذلك فإن لديهم حوافز سلطوية قوية، إضافةً إلى الأحلام التي أيقظوها لدى عوام الزيدية بعودة دولة آل البيت، مثلما عادت في إيران. وذلك قد يدفعهم أن يفضّلوا الصمود في صنعاء والقتال الشديد. وهذا فضلاً عن عدم إيثار السلطة الشرعية الدخول إلى صنعاء بالقوة. لديهم العصبية الزيدية، والعصبية اليمنية. ولدى القبائل من خارج مناطق الزيدية العصبية المذهبية، وأن الحوثيين حاولوا قهرهم كما كان يحدث في زمن الإمامة. ومنذ عام 1994 يرسل علي عبد الله صالح عساكره وقواه الأمنية لقهر الجنوبيين، ثم لقهر قبائل الوسط. وقد قال لي ابن أخيه عام 2012: لقد خاب أملنا بتعز، التي كان الرئيس يحبها فإذا هي تثور عليه، وسيكون لها جزاؤها! لدينا مصفوفات من العوامل والأحقاد والثارات. فأول مرةٍ تتعامل القبائل مع بعضها طائفياً وليس بحسب الأعراف القبلية، وذلك لأنّ القبائل الزيدية اعتزّت بظهور الحوثيين -ثم هناك الأحقاد الناجمة عن الصراع الزيدي- السلفي، الذي أدى عام 2012 إلى تهجير السلفيين من دمّاج بعد أن مات منهم المئات جوعاً. وهناك –كما سبق القول- أحقاد الجنوب– الشمال وبالعكس بسبب مشكلات الوحدة وإشكالياتها المستمرة! سلطة تعددية ولدى السلطة الشرعية عطبٌ أو قصورٌ لابد من تدارُكه. فكل القادة في الحكومة والعسكر والوزارات (باستثناء اثنين أو ثلاثة عينوا أخيراً في العسكر أو مستشارين) هم من الجنوب. وحتى سُنّة الشمال (وهم أكثر في العدد من سنة الجنوب، ومن الزيدية معاً) تمثيلهم ضعيف إن لم يكن معدوماً. وعندما انتُخب هادي لرئاسة الجمهورية وجرى تعيين باسندوة لرئاسة الحكومة، قلت لعبد الكريم الإرياني شيخ سياسيي اليمن، ورئيس الحوار الوطني: كيف تخطئون هذا الخطأ؟ فسكت لحظةً ثم قال: الروح الثورية المشبوبة لحراك 2011 أنستْنا كل الاعتبارات المحلية والطائفية والجهوية! وما أقنعتني تلك الحجة الخطابية، وما تغير الأمر بعد الانقلاب، إذ إنّ رئيس الحكومة الجديد مع هادي هو خالد بحاح الذي صار نائباً للرئيس أيضاً، وهو منصبٌ ينبغي أن يكون لشمالي زيدي، أو يظلّ الحوثي وعلي عبدالله صالح يتقاسمان التمثيل المذهبي الإمامي والرئاسي لشمال اليمن! عودة الحوار الوطني بعد شهرٍ أو شهرين حتى لو استمر القتال في بعض شمال اليمن، ستعود الموضوعات السياسية بقوةٍ إلى الساحة. بعد مؤتمر الرياض، سيجلس اليمنيون معاً في عدن أو صنعاء. وقد يصر الحوثيون على جنيف أو مسقط. إنما على أي حال، ستكون مخرجات الحوار الوطني وتقسيم الدولة إلى أقاليم وتحديد موعد الاستفتاء على الدستور والانتخابات النيابية فالرئاسية، هو موضوع النقاش والجدال. وفي التفاوض والانتخابات فإنّ الكثرة هي التي تحكم. وهذا يصعّب الأمر على الحوثيين. سيكونون أقوياء في إقليميهم، لكنّ حجمهم في البرلمان الاتحادي لن يكون كبيراً. وكذلك الأمر مع علي عبد الله صالح ومؤتمره الشعبي العام. فبحكم قوة الدولة، واستيلائها على توزيع الموارد المتضائلة، كان نصف الزيود، وثلثا الشافعية (وليس باعتبارهم زيوداً وشوافع، بل باعتبارهم مستفيدين من أعطيات الدولة) يصوتون للمؤتمر الشعبي العام. وقد فقد «الإصلاح» (الذي يجمع «الإخوان» وآل الأحمر وعزوتهم من حاشد) الكثير من التحشيد القَبَلي، ورأى أنصاره ماذا صار بمصر وتونس وليبيا مع الإسلام السياسي. وأظن أنّ الحزب الاشتراكي سيقوى قليلاً، وكذلك الناصري. ولمعتدلي الزيدية مستقبل أما الحاضر فليس لهم فيه شيء بسبب صعود التطرف الحوثي والأوهام الإيرانية. وإذا استعادت «الحكمة اليمانية» بعض اندفاعها، فأظن أنّ رئيس اليمن المقبل سيكون على طراز عبد الكريم الإرياني إنما أصغر سناً. القيادة مهمةٌ الآن لكي يتوجه اليمنيون إلى شخصيةٍ يطمئنون إليها. اليمن: لماذا حصل ما حصل.. وما هي التوقعات؟ عندما نقول إنّ التدخل الإيراني هو الذي منع تقدم حلم التغيير العربي يكون في ذلك شيء من التبسيط. فبسبب تسرعهم وميلهم للانتصارات السهلة تدخل الإيرانيون في العراق وسوريا والبحرين واليمن وبالطبع لبنان. وقد حصلوا على أموالٍ كثيرة جداً من العراق وغيره وعلى نفوذ كبير. وصار يمكنهم الاعتزاز بأنهم استولوا على أربع عواصم عربية. ولكنهم بدأوا يخسرون في سوريا، وخسروا بالفعل في اليمن. والسؤال الصحيح: لماذا حصل ما يسمى بـ«الربيع العربي»؟ حصل لأنّ الجمهور الشاب المتكاثر اندفع إلى خشبة المسرح. وقد أثار ذلك سخط ومخاوف الأقليات العرقية والدينية والمذهبية والجهوية. فالجمهور ليس عنيفاً في الأصل، لكنه يصبح كذلك إذا ووجه بالعنف. وكما تجرأت الكثرة على التظاهر، تجرأت في بعض المواطن على استخدام العنف. أما الطرف الآخر، الطرف الأقلوي الذي كان حاكماً (القذافي، والمالكي، والأسد، وعلي عبد الله صالح، ونصر الله)، فإنّ العنف صناعته ومبرر وجوده ومسوِّغ سيطرته. ولذلك فإنّ الزعماء الأقلويين، استخدموا مليشيات أقلوية لممارسة العنف الديني إلى جانب ممارستهم هم للعنف السياسي. وإذا اقترن العنفان تدمَّر الاجتماع، وليس الدولة فقط. المليشيات الإيرانية والداعشية ليست مثل مليشيات الحرب الأهلية اللبنانية أو حتى مليشيات منظمة التحرير الفلسطينية. إنه نوع جديد من المليشيات القاتلة، والذين استخدموه ويستخدمونه يعرفون ذلك. وهم يستخدمونه لأنهم يريدون السيطرة المطلقة، والتي لا تُتاح إلاّ بالقتل إلى ما لا نهاية! أربعة شروط للعبور هل يخرج اليمن من مأزقه الهائل؟ نعم، يمكنه أن يخرج بأربعة شروط: أولاً: استمرار الصبر والالتزام الخليجي بسلامة دولة اليمن ووحدة أراضيها وتنميتها. لقد كان هذا الالتزام هو الذي أنقذ اليمن من الهلاك. وينبغي أن يستمر على رغم التكلفة الهائلة في البشر والمال والجهد. وقد ينتهي الأمر بأن يكون اليمن عضواً بمجلس التعاوُن إذا توافر توافقٌ على ذلك. ثانياً: تناسي الجنوبيين للأحقاد على الشمال وعلى عفّاش وأتباعه، واتساع صدرهم بشأن التعديل على مخرجات الحوار. بل واتساع صدرهم تجاه شافعية الشمال وتعز. وهم عندهم بترول، والشمال عنده، وستكون الموارد كافيةً إذا أُحسنت الإدارة. لقد أقام زيدية الشمال حكم قلةٍ باسم الجمهورية، وقد فشل بعد الكثير من الخضّات، فلا ينبغي التفكير في الانفصال، ولا التفكير في الاستئثار بالسلطة باسم الاشتراكي أو الحراك الجنوبي.. الخ. ثالثاً: أن يهبَّ شافعيةُ الشمال لملاقاة الحوثيين في منتصف الطريق. لقد أقاموا معهم دولةً منذ عام 1963 مستبدلين بالإمامة الجمهورية، بعد أن كانوا مستبعدين تماماً أيام الأئمة. وكل كوادر الدولة اليمنية الحديثة والمعاصرة إنما أتت من تعز وجوارها الجنوبي والشمالي. واليمن بلادٌ هائلةٌ وذات حضارة، ولا تصلح لها ولا فيها الدويلات الإثنية أو الطائفية. وبُناة الدولة اليمنية الحديثة هم القادرون اليوم على المبادرة مرةً أُخرى رغم المتغيرات من الزيدية إلى الحوثيين، ومن الوطنيات والقوميات إلى الإخوان المسلمين! رابعاً: وهناك شرطٌ رابعٌ أو عاملٌ رابعٌ أتردد في ذكره، إنما لابد منه. وهو ذو شقين، شقّ خاص بعلي عبدالله صالح، وشق خاص بالحوثي وأتباعه. ما كان هناك بالفعل ما يبرر ما حصل من انقلاب، ومن تخريب للبلاد، وقتل للعباد، وإسقاط للدولة، لا لشيء إلاّ لأنّ صالح يريد العودة للسلطة، وعبدالملك الحوثي يريد إعادة حكم الإمامة! لا فائدة في المعاتبة لصالح، فما فعله أجلُّ وأفظع من العتاب. لقد توقعت أن يقود الحمق أو الهبل المتشددين الدينيين إلى القتل، كما يحصل من سنوات. أما أنت المخلَّد في السلطة بالصفقات، كيف يمكنك التعامل مع الوطن ساعة بالتعاون مع الحوثي، وساعة مع «القاعدة»؟! لقد قرأتُ أنّ صالحاً يريد اللجوء إلى إحدى دول المنطقة وهذا أمر جيد، وسيكون أمراً أجود أن يطلق سراح وزير الدفاع في الحكومة اليمنية الشرعية، وأن يسلّمه قياد وقيادة الجيش أو بقاياه التي لم تحطمها قوات التحالف. والدولة اليمنية على ضعف مواردها وفسادها يعمل عندها مليونان من اليمنيين، بينهم ثلث مليون من الجيش والأمن والشرطة. وبنتيجة ما يسمى «الربيع العربي» تبين أنّ حكام الأقليات مثل الأسد والقذافي والبشير والمالكي وصالح، إنما بنوا أجهزةً وجيوشاً على مثالهم ولأشخاصهم وأُسَرِهم، وما فعل ذلك مبارك ولا بن علي مثلاً. ولذا سلمت مصر وسلمت تونس. وما سلمت اليمن ولا سلمت سوريا ولا العراق ولا ليبيا. وهي البلدان التي تحول فيها الجيش إلى مليشيا أو حليف ورديف لمليشيا: جيش صالح حليف لمليشيا الحوثي، وجيش المالكي عند سليماني و«الحشد الشعبي»، وجيش الأسد عند «حزب الله» ومرجعية ولاية الفقيه..الخ. وأنا أشك أن يكون لدى الرئيس صالح حسٌّ تاريخي، إنما على فرض امتلاكه لذلك، ليته يترك بعد ما ارتكبه ذكريين: أنه أقام الوحدة بين اليمنيين، وأنه بنى جيشاً وطنياً لا يعمل مع المليشيات ولا عندها! أما الحوثيون فالحديث إليهم أصعب من الحديث إلى صالح وأتباعه. لقد ذهبتُ إليهم عام 2004 وهم يتظاهرون بصعدة وضحيان ويرفعون شعار: الموت لأميركا، الموت لإسرائيل. وقلت لحامل أحد الشعارات: ما شأن أميركا وإسرائيل بخلافكم مع الرئيس صالح؟ وأجاب الشاب غير متردد: لولا أميركا وإسرائيل لما بقي صالح، ثم إنّ السيد حسن نصر الله إنما انتصر بهذا الشعار، ونحن سائرون على خُطاه! ما كان بوسعهم الاستيلاء على عمران وصنعاء، والذهاب إلى الجنوب لولا جيش صالح. وقد فقدوا حتى الآن أكثر من اثني عشر ألف قتيل وجريح كلهم من الشبان، وسيفقدون مثلهم وأكثر إن أصرُّوا على الصراع في المدن الشمالية. لقد تحدثت إلى عددٍ منهم بالهاتف، وإلى آخرين قابلتُهم بمسقط والقاهرة، وكانوا واثقين من الانتصار في عدن، وفي وسط اليمن: فهل تدفعهم الخسائر الكبيرة إلى المهادنة؟ وبخاصةٍ أنّ إيران وباستثناء الفلوس وتهريب بعض السلاح الخفيف والمتوسط، ما استطاعت الوفاء بوعودها تجاههم. هل يقبلون المشاركة ما دام الانفراد بالسلطة ما عاد ممكناً؟ كلما سمعتُ عبدالملك الحوثي يتحدث في القناة التي أنشأها له الإيرانيون و«حزب الله» عن انتصاراته، يزداد تشاؤمي. وقد أعلنوا الطوارئ في صنعاء، ويتحدثون عن إجراءات جديدة. ويقال إنهم يشكّون في صالح وابنه. وهذه كلها ظواهر سلبية. وفي مقابل ذلك، يقال إنّ هناك محادثات في مسقط تشارك فيها كل الأطراف، وتكاد تتوصل لتسوية. وكما قلتُ من قبل: ربما كان انتحار آلاف الشبان دافعاً لهم لالتماس المصالحة. وهي مصالحةٌ تنقذ شمال اليمن، لأنّ الكثرة الشافعية ما عادت مستعدة بعد تجربتي 2011 - 2014 للخضوع مهما كلّف ذلك من أثمان! هل يبقى اليمن؟ مرةً أخرى: الأمر رهنٌ بحماس الشماليين شافعيةً وزيوداً على البقاء معاً، مثل حرص الجنوبيين وشجاعتهم في تحرير محافظاتهم من «القاعدة» و«الدواعش» والعفاشيين والحوثيين! {والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون}.