تتضاءل الحدود الفاصلة والمسافات بين الأنماط الثقافية السائدة بفضل التكنولوجيا الحديثة في عصرنا الحالي وحققت الثقافات التي تبنت نماذج تنوع ثقافي متقدمة مثل الولايات المتحدة الأميركية قفزات هائلة في جميع مناحي الحياة، وبالمقابل من توقّع أن تتلاشى الحروب القومية تدريجياً قبل 50 سنة وأن تسود الليبرالية في الخطابات السياسية يقف حائراً اليوم في خضم الفوضى القومية والعرقية والدينية التي لا تزال تشعل الصراعات في نشوء وارتقاء للحركات الانفصالية والأصولية الدينية، ويصرح علناً ساسة أقصى اليمين واليسار في العالم بأهمية أن ترجع بلدانهم حصرياً للعرق الأقدم تواجداً في المنطقة مثل العرق الآري في أوروبا الذين يعلنون رفضهم وتحفظهم على ثقافة التنوع الثقافي خارج إطار البيت الأوروبي المسيحي، فما بالك بما هو عليه الحال في الشرق الأوسط وخاصة بعد أن أصبحت العولمة الاقتصادية حقيقة مسلماً بها من قبل معظم سكان الكرة الأرضية تحت مسميات تختلف عن الفترة الاستعمارية في ما مضى، وتجد المسميات الرمزية مثل الاستثمار الأجنبي المباشر أو حرية التجارة العالمية وانفتاح الأسواق النقدية المالية بجانب سوق العمل العالمي، الذي حول العصر الحالي إلى عصر الهجرة المادية والمعنوية والافتراضية والتدفق العالمي للسلع والمال والخدمات والمعلومات والقوى العاملة وبالتالي ثمة تفاعل حضاري مهم يصب في جداول نهر التنوع الثقافي على العموم. وعلى رغم صعود التيار العولمي وخاصة بين الأجيال الشابة لا تزال أسهم اليمين واليسار المتطرف والغلو والتعصب الديني في تصاعد لدى قاعدة كبيرة من الجمهور الذي يرى في العولمة السارق الأكبر لما تعودوا عليه وعرفوه وأحبوه منذ نعومة أظافرهم فلم تعد المدينة تحمل ذاكره طفولتهم بعد إعادة بنائها رؤوس الأموال المحلية والدولية، وأصبحت ملامح المدن ذاكرة مشوهة للماضي الذي يحن إليه الإنسان فلا يجد غير غيوم الحداثة التي تحجب مراراً شمس الأصالة في الكثير من مناحي الحياة. وفي وقتنا الحاضر لم يندمج المهاجرون المهنيون والباحثون عن فرص العمل الجديدة في المجتمعات التي نزحوا إليها وكونوا مجتمعات فرعية لهم وخاصة في أحياء وسط المدن الرئيسية تعزلهم عن المجتمع المحلي وهو آجلاً أم عاجلاً ما سيشكل مشكلة بين صفوف الأجيال التي ولدت وترعرعت بين أحضان ثقافة مختلفة لا هم جزء منها ولا هم غرباء عليها تماماً! وهناك الكثير ممن يراقب من بعيد ويعلم أن تلك البؤر الاجتماعية الهامشية منجم ذهب لإثارة الفتن وإحداث فجوة في النسيج الاجتماعي للدولة المستضيفة التي ستغفل عن استغلال وتوظيف مخزون القوى العاملة والمواهب المهاجرة الماهرة لديها، ولذلك تحتاج كل الشعوب لتنمية ثقافة التنوع الثقافي وقبول الآخر وليس التعايش معه حيث إن التعايش قد تكون مجبراً عليه أما القبول فهو خيار يتخذه المرء بكامل قواه العقلية ووفق قناعاته الشخصية. فهل سينجح التنوع الثقافي ببعده التفاعلي الإلكتروني في قلب مفهوم العولمة؟ أم هي مسألة وقت وستسقط بعده تباعاً الهويات المحلية في المكنسة الكونية للنمط العالمي المشترك للعولمة ومولد الهوية العابرة للقارات، والتي يفكر من خلالها الفرد ويشعر عالمياً ويعيش بجسده محلياً حيث لن تكون لمصطلحات مثل الفردية الليبرالية والتفتت الاجتماعي على سبيل المثال وقع في نفس المتلقي وتهمّش إلى درجة ما الطقوس الوطنية الخاصة، ويتعامل معها كجزء من الإرث الوطني الذي يمارسه القلة والمسنون وهي النقلة التي لن يكون جدال فيها في عقل إنسان المستقبل وهاجس الانتقال السلس لمرحلة ما بعد الحداثة والبعد عن مثالية الثقافة الدارجة على المستوى المحلي وحدوث انقسام حاد بين بيروقراطية وإجرائية القطاع العام ومعرفية وربحية القطاع الخاص الذي سيتخلى عن أي تنافسية مربوطة بتقييم الأداء والنتائج بعيداً عن المحصلة النهائية التي تحدث الفارق التاريخي، أو قفزة نوعية لحياة الشعوب والتميز النوعي الفردي والجماعي غير المقيد برتابة النظم والقوانين وساعات العمل والمرتكز على الإبداع والاختراع والبحث العلمي وعدم مركزية القرار وهُجرت مفاهيم بيئة العمل الاعتيادية في القطاع الخاص الحالي والانتقال من الحوكمة المؤسساتية للحوكمة الإبداعية للمنتج المستدام كأرضية مشتركة ليست بمنأى عن التشرذم في الهويات والتقاليد، والتوهم بنقاء الثقافة الموروثة وكونها مفصلية لخلق غد أفضل في أزمة المنفى العالمي للإنسان المعاصر نحو المجتمعات الافتراضية وسقوط آخر قلاع حماية التفرد للثقافات، والذي سيجبر بدوره النوع البشري على تبني المثل العليا للتزاوج القسري بين الإنسان والتكنولوجيا ومشارب معرفة ما يسمى اليوم خيالاً علمياً لينحصر التنوع الثقافي مع مرور الوقت في فضاء المعرفة والعلوم.