إيمانويل تود هو واحد من علماء الاجتماع الفرنسيين الأكثر ذكراً اليوم في الأوساط الفكرية والأكاديمية والسياسية والمنابر الإعلامية، فقد أصدر مؤخراً كتاباً أحدث زوبعة بعنوان «من هو شارلي؟ سوسيولوجيا أزمة دينية» (يوليو 2015) إلى درجة أن رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس رد عليه بمقال نشره في جريدة «لوموند» تحت عنوان: «ضد التشاؤم السائد الذين يريدون تناسي 11 يناير»، والكتاب يصف بذكاء وبسوسيولوجية قلّ نظيرها، مبدأ التسامي الفرنسي وبخاصة تسامي الطبقات الغنية على الدولة والمؤسسات والأفراد وباقي الطبقات، وهي التي كانت في الماضي تعارض الثورة الفرنسية ومبادئها وتحمل جذور الخلفية التقليدية الكاثوليكية. ثم إن هذا الإحساس يولد بعض التبريرات التي تحمل بذور العنف: «لقد رسمنا دفاعاً عن مبدأ الحرية المطلقة لأي شخص في رسم ما يريد. نحن لا نزال نؤمن بحقنا في انتقاد كل الديانات، لكننا بقيادة هذه الفئة الميسورة والمهيمنة على المجتمع نستهجن انتقاد قيمنا ومعتقداتنا المتحضرة، ونلجأ إلى (أولغارشية الحشود) لصناعة حق يحمل في طياته عنفاً تجاه الغير». قبل أن يتساءل المؤلف في كتابه «بأي حق تنادي الحشود بحرية الإساءة للإسلام في رسوم كاريكاترية؟ وأي منطق هذا الذي صار يجعل من تشويه صورة الإسلام والمسلمين حريةَ تعبير؟»! والمعنى الأصيل لهذا التحليل هو أن هذا الاستعلاء الطبقي والاستخفاف بالفئات الأقل يسراً وتواجداً في المؤسسات النافذة للدولة يعني سوسيولوجياً «أن الإساءة للإسلام هي محاولة إذلال الأقلية الأقل ضعفاً في المجتمع» بمعنى أن المسلمين هم في الطبقة الأدنى في المجتمع والإساءة إليهم كاريكاتورياً هو جزء من هذه العملية الاستخفافية في تحالف مع التيار العلماني المتطرف الذي ينظر إلى المسلم من زاوية الإرهاب والتطرف والغلو الذي يجب أن يستبعد من حقوق المواطنة. والكاتب إيمانويل تود من عائلة فكرية ذات صيت عالمي، فهو ابن واحد من أبرز رؤساء تحرير المجلة الفرنسية الشهيرة ‏L’Express، ?أوليفيي ?تود، ?وهو ?ما ?خلق ?له ?بنوة ?فكرية ?مع ?واحد ?من ?عمالقة ?الفكر ?في ?فرنسا ?هو جان ?فرنسوا ?روفيل، ?كما ?أنه ?حفيد ?الروائي ?الكبير ?بول ?نيزان، ?وهو ?واحد ?من ?أبناء ?عمومة ?كلود ?ليفي ?ستروس ?الذي ?أنجز نظريات ?فكرية ?تدرس ?في ?العديد ?من ?جامعات ?العالم. وإيمانويل ?تود ?الذي ?عده ?البعض ?مارقاً ?وخارجاً ?عن ?الجماعة ?الفكرية ?الرسمية ?في ?فرنسا، ?لم ?يخن ?ذاكرة ?مؤسسي ?الفكر ?النقدي ?والفكر ?المتفتح ?الفرنسي ?والغربي، ?فهو ?على ?خطوات ?ألفريد ?سوفي، ?وتفاؤل ?بيير ?شوفي، ?عالم ?التاريخ ?الفرنسي ?المحسوب ?على ?اليمين ?الذي ?ظل ?قامة فكرية ?طيلة ?حياته. ?وإيمانويل ?تود ?في تحليلاته ?السوسيولوجية ?دائماً ?ما ?يزاوج ?بين ?العوامل ?الديمغورافية ?والأنثروبولوجية ?في ?شرحه ?للظواهر ?المجتمعية ?بعلمية ?وحرفية ?وأكاديمية ?كبيرة، ?فقد ?كان ?من ?أبرز ?من ?نظّر ?ضمن نظرية «?الشرخ ?الاجتماعي» ?التي ?أخذها ?عنه ?الرئيس ?جاك ?شيراك ?في ?حملته ?الانتخابية ?لسنة ?1995. ?كما ?كان ?قد ?تكهن ?بتفكك ?الاتحاد ?السوفييتي ?والنظام ?الاشتراكي في ?سنة ?1976، ?وغالباً ?ما ?يسير ?عكس التحليلات ?الرسمية ?إلى ?درجة ?أن ?الرئيس ?الفرنسي ?نيكولا ?ساركوزي ?وصفه ?سنة ?2007 بـ«?مرشح ?الفراغ»?. إن الذين خرجوا في مظاهرات 11 يناير، حسب إيمانويل تود، هم رجال مسنون ومن فئات ميسورة جداً، وهي لا تمثل الوحدة الوطنية التي يدعون تمثيلها، ولذا غاب عنها الفقراء والمهمشون (أبناء الضواحي)، وبمعنى آخر فإن هذه الطبقات تمثل الوجه الآخر لشارلي تجسد يمينية اليسار أكثر من اليمينيين أنفسهم. وبعض الأفراد الذين شاركوا في المظاهرات الحاشدة حسب «تود» أصيبوا بهستيريا اللائكية الجديدة، وهم اليوم ضد مبادئ الثورة... وهذا التشبيه وهذه الجرأة الفكرية التي أتى بها «تود» لا يمكن أن يقدم عليها إلا من أوتي شجاعة فكرية لانتقاد الحالة الميتافيزيقية المزرية التي تمر بها الدول الغربية والحداثة الغربية التي يظن حراسها أنها العلاج الوحيد لأمراض الآخرين. وهذا النوع من التحليل إذا ما استمر فسيمكن الدول الغربية على المدى المتوسط من تبني قوانين وإجراءات زجرية لمحاربة ازدراء الأديان والتهكم عليها وبث روح الكراهية ضدها وداخل المجتمع.. وبعض الدول العربية هي اليوم سباقة في تصور مشاريع وقوانين تجرم ازدراء الأديان كالمغرب والإمارات العربية المتحدة، وستستطيع الدول الغربية الوصول إلى هذه المرحلة وعندها ستقضي على نرجسيتها الثقافية.