هل وصل الوضع العربي من السوء والتحلل حد التساؤل عن استمرارية الوجود العربي، أي عن كينونة العرب أمة وكياناً إقليمياً وهوية ثقافية؟ يبدو أن هذه الإشكال هي خلفية الندوة المتميزة التي ختم بها موسم أصيلة هذه السنة أنشطته الفكرية تحت عنوان مثير هو «العرب: نكون أو لا نكون». ولم تغب عن ذهن الوزير المثقف «محمد بن عيسى»، المشرف على مهرجان أصيلة وجامعتها الصيفية، التحولات المأساوية الأخيرة التي مرت بها المنطقة مفضية إلى تبرير هذا السؤال الشكسبيري الذي حاول جمع من أبرز السياسيين والمفكرين العرب الإجابة عليه في الأيام الثلاثة التي تواصلت فيها أعمال الندوة. ولقد بدا لي تعليقاً على هذا السؤال ورصداً لمستجداته الراهنة، أن المأزق العربي يتلخص في خللين بنيويين عميقين، يتعلق أحدهما بمسار تشكل الكيان السياسي المشترك وثانيهما بمسار تشكل الدولة الوطنية. وإذا كانت العلاقة بين المسارين تبدو بديهية من منطلق الارتباط العضوي بين الأمة والدولة في النموذج السياسي للعصور الحديثة، الذي هو الدولة الوطنية، فإن الأمر أكثر تعقيداً وإشكالية إذا نظرنا إلى تجارب البناء السياسي المتنوعة في العالم. ويمكن في هذا الباب التمييز بين نماذج ثلاثة كبرى هي: البلدان التي شكلت فيها الدولة المركزية الهوية القومية (مثل فرنسا وبريطانيا)، والبلدان التي تشكلت فيها الأمة من منظور الهوية الثقافية والتاريخية قبل أن تتشكل فيها الدولة (ألمانيا وإيطاليا)، والبلدان متعددة البناء القومي والهويات الجماعية (الولايات المتحدة وسويسرا وكندا). النماذج التي توقفنا عندها هي دول ديمقراطية مستقرة وراسخة البناء الوطني، بينما لم تحسم إلا نادراً العلاقة بين الهوية الجماعية المشتركة ونمط التسيير السياسي في بقية العالم بما فيه البلدان العربية التي تعيش أزمات الانتقال السياسي على المستويين (حركية المجتمع وحركية الدولة). ما نريد قوله هو أن نموذج الدولة الوطنية الإدماجية، أي المعبرة عن الهوية الجماعية المشتركة، قام على الجمع بين ديناميكيتين متمايزتين: ديناميكية ثقافية مجتمعية عضوية هي المفهوم الموسع للأمة الذي يتجاوز الإطار الضيق للدولة، وهو صيغة معلمنة من الهوية الدينية من منطلق عرقي أو حضاري، وديناميكية سياسية تحصر المجموعة السياسية في دائرة المواطنة التعاقديّة، أي الحالة القانونية التي تصنع الجسم السياسي المنظم. وفي الحالتين تظل الدولة إشكالًا مطروحة، فهي أضيق من البناء القومي بمفهومه الثقافي الواسع كما أدرك فلاسفة الأمة في القرن التاسع عشر (أغلبهم من الألمان)، وهي من حيث منظورها السيادي التحكمي متناقضة مع فكرة المجموعة السياسية الحرة والمفتوحة، كما أدرك المفكرون الليبراليون المحدثون (أغلبهم من إنجلترا). الدولة الوطنية الحديثة هي إذن حصيلة عملية تصرف اعتباطي بمنح مفهوم الأمة الثقافي دلالة المجموعة السياسية مع إغلاق حدود هذه المجموعة من منظور المقاربة السيادية. هل يمكن تصدير هذا النموذج الفريد والاستثنائي خارج الحيز الأوروبي؟ وهل يمكنه الاستمرار في الحيز الغربي نفسه مع الأزمة الجوهرية العميقة التي تعيشها الدولة الوطنية السيادية؟ إذا كان من الخطأ التعميم بخصوص الحالة السياسية العربية، فإنه من الممكن القول إجمالا إن المأزق العربي الراهن تولد من كون الهندسة السياسية للدولة الوطنية العربية الحديثة ركزت على البناء المؤسسي البيروقراطي والإداري للجهاز المركزي للحكم دون العمل على البناء المجتمعي، مع اختلاف واضح بين البلدان التي تشكلت فيها هوية وطنية لأسباب تاريخية وإقليمية معروفة وتلك التي ظلت فيها هذه الهوية ملتبسة نتيجة لطبيعة التركيبة المجتمعية ونمط الجغرافية السياسية. ففي حين ظل المفهوم القومي والثقافي للأمة هو المهيمن في المرجعية السياسية في عموم البلدان العربية، حتى تلك التي لم تحكمها الأنظمة القومية، لم تنجح الدولة العربية الحديثة في بناء الكيان السياسي الجماعي المندمج الذي هو حقل المواطنة المتساوية، بل سعت في أحسن الحالات إلى إدارة التوازنات الفئوية دون احتوائها. وفي كتابه «بناء الدولة»، يذهب الكاتب الأميركي فوكوياما إلى القول بأن البلدان التي تقوم فيها الديمقراطية التعددية قبل أن تتشكل فيها دولة قوية مستقرة، تتعرض لمخاطر التحلل وبالتالي تنهار فيها الحريات السياسية. وبما أن لحظة بناء الدولة سابقة على اللحظة الديمقراطية، فإنها تتم عادة بالقهر والعنف والحروب. المأزق الذي يواجهه العرب اليوم مضاعفاً ويتلخص في تحدي بناء الدولة القوية بالخروج من الفتنة الأهلية التي قوضت كل دوائر الاندماج الاجتماعي وقضت على إمكانات الوجود السياسي المنظم والحر.