عُرف عن السوريين الحماس القومي، وينظر إليهم بحسبانهم أكثر الشعوب العربية تعلقاً بالعروبة، لكن، وكما يقول الباحث الدكتور محمد صفي الدين، لم يقبل السوريون أن يحكموا من القاهرة خلال الفترة من 1958 إلى 1966، ولم يكن العراقيون والسوريون ليقبلوا أن يحكموا من القاهرة بعد عام 1963». لقد مرّ العرب بتجربة رفض الوحدة دون أن يرفضوا الانتماء العربي، واليوم إذ يرفض العالم العربي مغامرات الخلافة والدولة الإسلامية، فهو كذلك لا يعلن رفض الانتماء الإسلامي. فليس كل ما يبدو في عالم الفكر والتنظير جميلاً رائعاً يكون كذلك على أرض الواقع وفي الممارسة العملية. يقول الباحث: «لقد ظن القوميون العرب أن الهوية العربية تسمو على ما عداها، لاسيما على الهوية الوطنية، وستكون للعرب دولة واحدة عندما يرحل الاستعمار، وتأسس حزب البعث بحسبانه حزباً قومياً عربياً تتبعه فروع في الأقطار العربية. وعندما وصلت الفروع البعثية إلى السلطة في دولها، دافعت عن الهوية القطرية، وعن الدولة القطرية التي كانت موضع الهجوم قبل الوصول إلى السلطة. بل إن العلاقات السورية العراقية لم تكن في حالة أسوأ مما كانت عليه عندما حكم البعثيون كلاً من سورياً والعراق، وفشلت فشلاً ذريعاً جميع المحاولات الوحدوية التي قادها العروبيون بعد الانفصال السوري عن الجمهورية العربية المتحدة». أسهمت أربعة أحداث بارزة في «القضاء على تهديد الهوية العربية للهوية الوطنية في الدولة العربية الحديثة»، كما يرى الباحث، وربما كان تعبيره أكثر دقة لو قال: «الهوية العربية المسيسة أو الحزبية»، فالهوية العربية رابطة ثقافية ممتدة تعمل وفق آليات وحوافز لا تبدأ بالضرورة ولا تنتهي مع بعض الظواهر والنشاطات أو المشاريع السياسية. هذه الحوادث الأربعة هي فشل تجربة الجمهورية العربية المتحدة بين مصر وسوريا، ووصول مباحثات الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق إلى طريق مسدود وإعلان فشلها، ثم جاءت هزيمة 5 يونيو 1967، وأخيراً وفاة الرئيس جمال عبد الناصر عام 1970. غير أن المشاعر القائمة على أولوية الهوية الوطنية، الوطن الجغرافي التاريخي الذي يجمع داخله أحياناً مواطنين من خلفيات دينية وعرقية ولغوية مختلفة، وجدت نفسها، بعد عام 1970 تدريجياً، في صراع واسع مع الهوية الدينية بالمفاهيم التي صارت تروج لها جماعات الإسلام السياسي والحركات الأصولية في المدارس والمساجد والإعلام. كانت «الهوية الإسلامية» أقدم في الحياة السياسية العربية حتى خلال القرن العشرين. وكانت البلدان العربية «المشرقية» في بلاد الشام والعراق والمنطقة الخليجية قد سارت في مسار يختلف عن مصر، فقد ثارت هذه المناطق على الدولة العثمانية بدوافع دينية وقومية، وكانت «الثورة العربية الكبرى» ثورة ضد الأتراك العثمانيين من منطلق عروبي. ورغم امتداد حكم الدولة العثمانية عبر عدة قرون إلا أن هذه الدولة الكبرى المريضة تفككت في كل مكان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى، وتأسست بذلك خمس دول أو مناطق عربية كما هو معروف. واختلف مسار دول المشرق عن دول المغرب «وعندما كان عرب المشرق يحاربون دولة الخلافة لتكوين دولتهم أو دولهم المستقلة»، يقول الباحث، «كان عرب المغرب يناضلون ضد استعمار غربي «مسيحي» شديد التعصب. وبينما كانت الثورة في المشرق ضد الاحتلال العثماني ثورة عربية -أو على الأقل- ذات سمات عربية، كانت الثورات في المغرب العربي من أجل الاستقلال تتسم بسمات إسلامية ضد المستعمر «غير المسلم» (ص 58). أما في مصر، فقد تنافس مع مطلع القرن العشرين اتجاهان رئيسيان؛ فقد كان هم «مصطفى كامل» التخلص من الاحتلال البريطاني، من خلال إعادة مصر المستقلة نسبياً عن الدولة العثمانية والمحتلة من قبل بريطانيا، إلى دولة الخلافة رسمياً على الأقل، مع الاحتفاظ بمكاسب معاهدة لندن 1840. وبعكسه، كان أحمد لطفي السيد ورفاقه في «حزب الأمة»، ينشدون دولة وطنية وكياناً مصرياً، وكانت «الأمة» بالنسبة إليهم هي الأمة المصرية. وأكثر من هذا، «رأى أحمد لطفي السيد الانتماءات الأخرى، العربية والإسلامية، أوهاماً، فالأمة المصرية لن تتقدم بأوهام يسميها البعض الاتحاد العربي، أو الجامعة الإسلامية. ومع استقلال مصر الرسمي عام 1922، ترسخت الدولة الوطنية على أسس حديثة، وكان حزب الوفد حزب الأغلبية الشعبية، وسائر أحزاب هذه الحقبة، أحزاباً تتبنى فكرة الدولة الوطنية». ولهذا، ومع الوقت، باتت في مرمى نيران جماعة «الإخوان المسلمين» منذ الثلاثينيات.