ما زلتُ أتذكّر حكايات ما قبل النوم، التي كانت أمّي تقصها عليَّ وأنا أدسُّ جسدي الصغير تحت الفراش. لم تكن على أيامنا هواتف نقّالة ولا إنترنت ولا قنوات فضائيّة، لكنها كانت طفولة دافئة كوني ظللتُ أنا وإخوتي على الدوام محور اهتمام أمّي وأبي. كانت طفولتي هانئة لا يُعكّر صفوها شيء من منغصات الحياة، وينحصر تفكيري كل ليلة حول الاستماع لتفاصيل قصّة مشوّقة جديدة ستحكيها لي أمّي بصوتها الحاني، فترتسم على ملامح وجهي ابتسامة صافية وأغطُّ في النوم قبل أن تنتهي أمّي من سرد نهاية الحكاية. لم تكف أمّي عن سرد حكاياتها إلا عندما دخلت عالم القراءة، وبدأت أقرأ بنفسي سلسلة القصص المكتوبة عن سندريلا وعقلة الأصبع والأقزام السبعة وغيرها من القصص المشوقة التي ساهمت لاحقاً في تخصيب مخيلتي وفي صقل موهبتي الأدبيّة. لكني لا أهدف إلى التحدث عن الجانب الإبداعي لقلمي، بل أردتُ التحدث عن المشاهد الجميلة التي عاش فيها أبناء جيلي مقارنة بأجيال اليوم! ولا أبالغ حين أقول بأني أعتبر جيلنا أوفر حظّاً من الأجيال اللاحقة رغم المغريات الحياتية التي يزدحم بها هذا العصر الصاخب! ما دفعني لسرد حيز صغير من ذكريات طفولتي، الخبر الذي قرأته عن انهماك باحثين بجامعة بريطانية في أبحاث علمية تهدف لتطوير «الروبوت»، ليتمكن مستقبلاً من الإصغاء لمشاكل الإنسان، بجانب قدرته على اصطحاب الأطفال للحدائق واللعب معهم! وحقيقة استهجنتُ الموضوع برمّته! فما فائدة الآباء إذا تخلوا عن رعاية أبنائهم وتركوهم لآلة مبرمجة؟ كيف يمكن بناء ذكريات بين الطرفين عندما يحين موعد رحيل الآباء؟ ألا تكفي الفجوة التي تتسع يوماً بعد آخر بين جيل الأبناء وبين جيل الآباء، حتّى غدا الفتور هو السمة القائمة بينهما؟ ذكرياتنا، هي مجموعة من موروثاتنا الاجتماعية، وتجاربنا الحياتية والشخصية، وآباؤنا وأمهاتنا جزء رئيسي لا يتجزأ من حصيلة هذه الذكريات. منهم نستقي مبادئنا الأولى، وعلى أيديهم نتعلم نطق الحروف الأولى، وبفضلهم نعي معنى الحب والتفاني وقيمة الدفء الأسري. وبدونهم يفقد الأبناء بوصلة حياتهم المستقبليّة، ويشبّون بعقول فارغة ليس فيها مكان لصور حميمية. لستُ ضد العلم والعلماء، بل أرى أن الروبوت له محاسن كثيرة؛ فبإمكانه أن يُساعد المعاق في تصريف أمور حياته، وأن يُساعد العجوز على توفير حاجياتها من مأكل ومشرب، وأن يحل مشاكل متعددة.. لكن مهما حاول العلماء، لن يستطيعوا جعل الرجل الآلي إنساناً من لحم ودم! السعي لصناعة رجل آلي دوره الاستماع لشكوانا، هو خروج من دائرة الإنسانية وإهانة للبشرية! وستُصبح حياة المجتمعات حينها باردة لا وهج حقيقي فيها، ولا مشاعر صادقة، ولا لمسة حانية من أم، ولا نصيحة رادعة من أب. وستشبُّ الأجيال على أن الأجهزة المصنوعة من حديد، هي أبوها وأمها وستختفي أشياء عفوية كثيرة من حياتنا إلى الأبد. الحياة، جمالها في أن نلتقي بأناس حقيقيين من لحم ودم، نبثُّ أمامهم لواعج قلوبنا دون أن ترتجف أجفاننا! أن نحكي لهم عن حبيب هجرنا إلى الأبد، أو عن صديق استهان بصداقتنا، أو عن قريب غدر بنا! قد نلمح نظرة التبرّم والضجر في ملامح بعضهم. قد نُلاحظ حدقات تقدح شرراً لحديثنا الذي لم يرق لها! لكن هذه التصرّفات أفضل آلاف المرات من أن نترك أنفسنا عبيداً لجهاز جامد، ينظر في وجوهنا بتبلّد دون أن تدمع عيناه لمآسينا، أو يتحاور بصدق مع همومنا! جميعنا وإن بدونا سعداء بما ينجزه العلماء، فإننا في دواخلنا نحنُّ للحياة الفطريّة البسيطة.