لم يعرف تراثنا البحث التقريري، بل إن الشروح والملخصات ذاتها لم تكن مجرد جمع مادة أو إسقاط أخرى بل كانت محاولات فلسفية تزيد من نطاق التحليل الفعلي وبيان أسسها النظرية، وهذا هو الشرح، أو أن تركز على الأفكار الأساسية التي تبرز من خلال التحليلات والبراهين، وهذا هو التلخيص. أما التقرير المحض الذي يجعل من الفكر مجرد تاريخ ويصبح لدينا «تاريخ الفلسفة الإسلامية» أو «تاريخ علم الكلام» أو «تاريخ التصوف الإسلامي» أو «تاريخ الفقه الإسلامي»، فهذا تناقض لأن الفكر موضوعات مستقلة عن التاريخ، والتاريخ لا يدرس إلا الموضوعات في عالم الأعيان، فالتاريخ والفكر من طبيعتين مختلفتين. وقد ظهرت في التراث القديم محاولات لتاريخ الفكر ولكنها كانت محاولات فلسفية. فابن رشد يبحث في علم الكلام ولكنه لا يقرر فقط، بل يفكر على ما يقرر، وينقد ويغير، ومحمد عبده في رسالته عن التوحيد لم يقرر فحسب بل حاول إعادة بناء العلم نفسه. والأمثلة كثيرة في التراث على أن الباحث هو فيلسوف. والدارس هو مفكر. أما البحث التقريري الصرف في تاريخ العلوم العقلية أو تاريخ المشاكل فهو نوع غريب كل الغرابة عن روح التراث، فضلاً عن الخلط بين التاريخ والفكر. وهو خطأ لا يتبدد إلا بعد دراسة مناهج العلوم الإنسانية أولاً، وتجديد الباحث لهدفه وفهمه لطبيعة التراث وخاصيته الأولى ثانياً. والمنهج التاريخي يقضي على وحدة الظاهرة واستقلالها. ويرجعها إلى عناصر مادية وإلى عوامل تاريخية مع أن هذه العناصر المادية إن هي إلا عوامل للفكر وليست مصدراً لموضوعاته. فالطبيعة لا تنتج فكراً بل هي محررة للفكر. ففي مقابل التفكير السببي يوجد التفكر الماهوي، الأول يعتبر الموضوعات الفكرية معلومات والعوامل التاريخية عللاً، والثاني يعتبر موضوعات الفكر مستقلة ويتعامل معها كموضوعات مستقلة أو كماهيات أو معان. كما نضع في مقابل التفكير النشوئي التاريخي الذي يتتبع نشأة الأفكار في الظروف التاريخية التفكير التكويني الشعوري الذي يتتبع نشأة الأفكار في الشعور. وكلاهما المنهج السببي والمنهج النشوئي التاريخي خطآن من أخطاء العصر، ونقص في تكوين عقلية الباحث الفلسفية خاصة أمام تراث ماهوي يعطي موضوعات مثالية. ومهمة الباحث إذن تحويل الموضوع من أساسه المادي كتاريخ أو كحادثة أو واقعة أو فرقة إلى أساسه الفكري الشعوري من أجل تحديد تصورات العالم. مهمته وضع الحوادث التاريخية خارج دائرة الاهتمام ورؤية ماهية الفكر ونشأته في الشعور. ولا يعني تحليل الظواهر الفكرية باعتبارها موضوعات مستقلة عن التاريخ الوقوع في مثالية مغرقة وذلك لأن التاريخ سيظل الحامل للأفكار وستظل المواقف الاجتماعية هي المهيئة لظهور الفكر من خلال الشعور، أي أن الموقف هو الموقف النفسي الاجتماعي. الفكر لا يظهر إلا في التاريخ وفي الموقف الاجتماعي، ولكنه لا يتأسس إلا في الشعور. ولكن في التاريخ هناك فرق بين الوقائع الدالة والوقائع المصمتة التي لا دلالة لها، فالأولى هي التي تثير الفكر، وهي التي يمكن رصدها لأنها تبين مسار الفكر في الواقع ونشأته فيه، في حين أن الثانية مجرد تجميع لوقائع لا تعني شيئاً وكأن التاريخ ما هو إلا مجموعة من الحوادث المتراصة الخالية من أي معنى. ولما كانت الفلسفة الإسلامية ذات طابع عارض وليست ذات طابع مشكل فالفيلسوف يعرض نظرياته وآراءه مرة واحدة، ويعبر عن تصوره للعالم، ولا يفكر محللاً مشكلة ما وعارضاً لأوجه حلولها المختلفة. ولذلك كان على الباحث أن يتجه بفكره نحو المشاكل نفسها التي تكمن وراء العرَض، ويعرضها في صيغة تساؤلات مفتوحة دون أن يكررها في قوالب ونظريات مغلقة حتى يستطيع السامع أو القارئ أن يساهم في حلها. ولابد للفلسفة الإسلامية إذن من الفكرة الموجهة ومن فرَض أولي حتى يمكن إحياء المادة وفهمها وعدم تكرارها. فكما أن الطبيعة لا تتحدث بل يشع فيها نور العقل فتصبح معقولة، كذلك مادة الفلسفة الإسلامية لا تعرض نفسها وتحتاج إلى فرض يمكن شرحها وبيانها وإلا لصارت جزءاً من التاريخ العام أو تاريخ الفِرق، ويصبح الفلاسفة مادة في كتب الطبقات. ومهمة التجديد أنه باستطاعته اقتراح الفروض، وإلقاء وجهات النظر التي يمكن العثور عليها إما من النص وهو المصدر أو من العقل وهو الأساس أو من الواقع وهو المحك أو القياس.