خلال الشهر الماضي، تقدّم الجنرالان «ريمون أوديرنو»، قائد الأركان السابق، وخلفه «مارك ميللي»، بشهادتيهما أمام الكونجرس حول الصعوبات التي يواجهها الجيش الأميركي أثناء أدائه لمهماته. وأودّ هنا أن أسرد القصة ذاتها من وجهة نظري. فعندما كنت صبيّاً، كان «التهاب اللوزتين» يُعدّ مرضاً خطيراً. وفي عام 1952 أقعدني في «مستشفى طوكيو العام» لعدة أسابيع. وكانت إقامتي في جناح ضيّق شاركني فيه بضع عشرات من الجنود الأميركيين المصابين بجروح بليغة وتشوّهات جسدية مخيفة بسبب الحرب الكورية. ولم يكن المستشفى يحتوى إلا على صالة سينما وحيدة. وأذكر أنني شاهدت فيلماً حول «رعاة البقر» وأنا محشور بين كومة من الأجساد المغطاة بالضمادات. ولا أنسى رائحة المواد المطهّرة ودخان السجائر التي كانت تعبق بقوة في أجواء الصالة. وكنت أستمع بقلق شديد إلى تبرم الشبان صغار السن المصعوقين من هول الحرب التي تركوها وراءهم للتوّ. وما لبث أبي أن جاء من كوريا لزيارتي. وكان هو ذاته ضابط عمليات في فرقة الهندسة العسكرية الثانية. وراح يحدثني عن مدى ضعف التدريب وقِلّة الاستعداد للحرب التي يعاني منها رجاله. وكان هذا سبباً في موت وأسر الكثير منهم من طرف المقاتلين الكوريين الشماليين. وخلال انسحاب جنوده من ضفاف نهر «يالو»، بلغت الحالة الجسدية والنفسية ببعضهم الحدّ الذي دفعهم للسير على الطريق العام أملاً بوصول مقاتلين كوريين ليأخذوهم كأسرى حرب. وفي بداية عقد السبعينيات، كان عمري مساوياً لعمر أبي أيام الحرب الكورية. وكنت قد ذهبت إلى فيتنام لأقف هناك على مشهد آخر للجيش الأميركي المترهّل والضعيف. وكانت كل ثكناتنا العسكرية منشغلة بحرب شرسة. ووجدت نفسي مجبراً على حمل مسدس حتى أحمي نفسي من غضب جنودي ذاتهم لأن بعضهم كانوا تحت التأثير القوي للمخدرات. وفي حقيقة الأمر كانت تلك الثكنات تمثل بحدّ ذاتها ميداناً لمعارك عنصرية تدور بين الجنود السود وأقرانهم البيض. ويمكنني أن أقول أيضاً إن الجيش كان منهاراً لأنه فقد الكثير من أصحاب الرتب العسكرية المنخفضة كالرقباء والعرفاء الذين لقوا مصرعهم أو جرحوا أو هربوا من هذه الأوضاع المرعبة. وفي عام 2007، قمت بزيارة إلى بغداد. وحللت ضيفاً على الجنرال «ديفيد بترايوس» الذي كان يشغل منصب القائد العام للقوات الحليفة في العراق. وقبل سفري إلى هناك، كتبت عموداً لإحدى الصحف تنبأت فيه بأن نرى في العراق صورة جديدة لجيشنا المنهار، ولكن كان من الواضح من خلال ما أكده لي «بترايوس» على أرض المعارك أن الجيش الأميركي هناك متماسك ويحارب ببسالة في شوارع بغداد الخطيرة. وكنت على قناعة بأن هذه القوة الصغيرة المحملة بأعباء قتالية ضخمة وبالغة الخطورة، لابدّ أن تنهار بعد الزج المتكرر بها في مثل هذه المهمات وفي هذه الأماكن العامرة بالكراهية. إلا أن «بترايوس» قال لي إن جيشنا مختلف هذه المرة، ويمتاز بتآزر مقاتليه لأن قادته الشبّان تلقوا تدريبات كافية على القتال. ولكنني لا أعلم حتى الآن كيف حصلوا على هذه التدريبات. ولعل ما يثير حزني وأسفي هو أن هذا الجيش الذي بدا متماسكاً في العراق وأفغانستان، حتى بعد أن خسر أكثر من 5 آلاف قتيل، ينهار الآن من جديد بسبب قيادته غير الخبيرة التي تقيم في واشنطن. وقد أعلنت إدارة أوباما لتوّها تخفيض عدد حاملي الرتب العسكرية المختلفة بنحو 40 ألفاً. إلا أن الأرقام وحدها لا تحكي القصة كلها. وذلك لأن الجنود يفضلون البقاء في الجيش حتى يتمكنوا من الحصول على مستوى عالٍ من التدريب على الأسلحة الجديدة. ولكن وزير الدفاع «آشتون كارتر» صرح مؤخراً بأن الجيش لم يعد يمتلك من الأموال ما يكفي لتدريب الجنود خارج الفرق التي ينتسبون إليها هذا العام. ونحن نعلم أن الجنود يحتاجون للتدريب المتواصل على القتال. وخلال السنوات الأربع الماضية، اضطرّ الجيش لإلغاء 20 برنامجاً رئيسياً، وتعليق العمل بـ125 برنامجاً آخر، وأعاد هيكلة 124 برنامجاً بسبب التغيرات الطارئة على نوعية الأسلحة المستخدمة. ولكنّه لن يعمد في الواقع إلى استبدال الدبابات والمدافع والطائرات التي صنعت في عهد ريجان إلا بعد جيل. ويبدو أن إلغاء 40 ألف رتبة عسكرية لا يمثل إلا البداية. وتتحدث معظم التقديرات الصادرة عن الكونجرس أن عدم إلغاء قرار تخفيض الميزانية، سيدفع القيادة العسكرية إلى تسريح عدد مماثل من أصحاب الرتب العسكرية المختلفة. روبرت سيكيلز: القائد السابق للكلية الحربية الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفس»