«وقالت وكأنها تحلم: (كل شي ينفرج). وأعجبها هذا الخيال، فتابعت قولها: (كل شي يصير زين). كانت ترمق صحن الخان العريض المليء بالوحل. أمامها حجرة خيرية وإلى جانبها حجرة العوانس الثلاث. وبدا لها الحوش رحباً وواسعاً كالخيال. (كل شي يتعَدَل). كانت تحاول أن تهتدي إلى تعليل للجملة التي ورثتها عن سابع ظهر. (ما راح تبقى الدنيا هيجي. باجر عقب باجر، ما تشوف إلاّ الباب تندق. أصيح من مكاني: منو يدق الباب؟. أسمع واحد يقول: آني فارس الفرسان. وأطلع وأشوف قدامي فارس حلو عليه هالة نور، راكب على فرس شهبا نظيفة تلمع. أقول له: عيني شتريد؟ يرد عليّ: منو محتاج عندكم؟. أقول له: إحنا عيني، إحنا. الشايب صار شهر نايم بالفراش). ويخبرها فارس الفرسان أن تتهياً لمغادرة المنزل. وتسأله: وين عيني؟ يقول: لمُّوا غراضكم، وتحولوا لحوش جديد نظيف». هذا مقطع من رواية «النخلة والجيران» للروائي العراقي غائب طعمه فرمان، الذي يقام له الشهر المقبل احتفال تذكاري في موسكو بمناسبة مرور ربع قرن على رحيله. وجميع الشخصيات النسائية في هذه الرواية، المترجمة إلى لغات عدة فقيرات، مخذولات، لكن لسن مسحوقات، بل يتحايلن على حياة تتحايل عليهن، في بلد تحايلت بريطانيا على احتلاله للمرة الثانية، متذرعةً بالحرب ضد الألمان. وغائب من جيل رواد الرواية العراقية، الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية، وتحايل على مهنة الروائي غير المجزية بالعمل مترجماً في دار النشر باللغات الأجنبية «التقدم» بموسكو، حيث أقام نصف قرن، وترجم إلى العربية 84 من عيون الأدب الروسي، لبوشكين، وتورجينيف، وتولستوي، ودستوييفسكي، وغوركي. وإذا كنت تعيش في أحياء بغداد القديمة القرن الماضي فإنك في القاع، وعلى تخومه في آن، وهذا يمنح البغداديين مخيلة قصصية خصبة بالفطرة، تُعبِّر عنها «النخلة والجيران» التي يتحدث أشخاصها بالعامية البغدادية. وفي رواياته التسع اللاحقة استخدم غائب الحوار المُفصّح، على غرار لغة نجيب محفوظ، وشكا في ندوة في «معهد الاستشراق» بموسكو: «أنا ممزق بين أمرين، إما أن أكون عراقياً فأكتب باللهجة العراقية، أو أكون مقروءاً علي مستوى العالم العربي فأكتب بالعربية الفصحى». و«الرحلة الأخيرة، هي الأطول، والأفضل». قال ذلك عن الموت الروائي الأميركي توماس وولف، وتلك هي رحلة غائب الحاضر في ندوات، وكتب، ودراسات، وأفلام، ومسرحيات، مستقاة من أعماله. الشاعر حسب الشيخ جعفر، الذي درس في «معهد غوركي» بموسكو أهداه قصيدة في ديوانه «رباعيات العزلة الطيبة». والباحث العراقي عبدالله حَبَه، الذي عايش غائب نصف قرن، يبذل جهوداً كبيرة لإقامة تمثال له في مبنى «اتحاد كتاب روسيا». وأصعب ما في المهمة إيجاد نحات يُنطق قلبَ الصخر، كما فعل الراحل إسماعيل فتاح، في تمثاليه الساحرين للشاعر أبي نواس، والرسام الواسطي المقامين ببغداد. «دار المدى» التي أصدرت «الأعمال الكاملة» لغائب في عشرة مجلدات اختارت للأغلفة صورته الفوتوغرافية، وهو يضحك ضحكته المشرقة، هذا هو غائب الطفل البريء، حتى عندما يُفقده الشربُ الوعي، ويصبح مشاكساً لا يُطاق. في أمسية في «المعهد التحضيري» لجامعة موسكو، حيث كنتُ أدرس وأسكن، احتفلنا على الطريقة الروسية بمخطوطة «النخلة والجيران». وما إن خرجنا للشارع حتى اقتحم غائب مخزن مأكولات، وأخذ يعاكس البائعات كطفل فلتان. وعندما هدّدنَ باستدعاء الشرطة، ادّعيت أننا نريد شراء سمكة ذهبية مجففة، وكانت أول ما وقعت عليه عيناي في المخزن. دفع غائب المبلغ صاغراً، ودّسَ السمكة في جيب معطفه الروسي الثقيل. وحالما غادَرْنا المخزن اختفى، مثل «فص ملح وذاب». مشطتُ الشوارع التي تؤدي إلى منزله القريب مني، وفيه وجدت عبد الله حَبَه، وأخبرته بما حدث. وانتظرناه حتى غفونا بملابسنا على الكنبة. وعند الفجر جاء غائب، وقال أنه قطع المسافة مشياً من ضواحي موسكو، حيث صحا، ولم يجد في جيوبه نقوداً تكفي لتأجير تاكسي. ونزع معطفه فسقطت من جيبه السمكة الذهبية المجففة!