يوماً بعد يوم تتراجع النظرة التقليدية للسرطان على أنه مرض واحد لتحل محلها رؤية أكثر حداثة، تنظر للسرطان على أنه مجموعة أو حزمة من الأمراض، حيث يقدر أن الجسم البشري من الممكن أن يتعرض لأكثر من مئة نوع مختلف من الأمراض السرطانية، وعلى رغم وجود قاسم مشترك واحد بين جميع هذه الأنواع، هو النمو والتكاثر غير الطبيعي للخلايا المريضة، فإنها تختلف في الأسباب، وفي الأعراض والعلامات، وفي المنحى والمسلك اللذين تنتجهما، وخصوصاً على صعيد مدى الخبث والشراسة. وهذه الرؤية الحديثة للأمراض السرطانية تلقت دعماً مهماً مؤخراً مع ظهور نتائج دراسة أجرتها مجموعة من الباحثين البريطانيين في أحد مستشفيات مدينة «كامبريدج» البريطانية (Addenbrooke's Hospital)، وقاموا من خلالها بعمل مقارنة بين 250 ورماً سرطانياً تم استئصاله من مرضى مصابين بسرطان البروستاتا، وبين المسلك الذي سلكه السرطان لاحقاً في هؤلاء المرضى، على صعيد مدى شراسة الخلايا السرطانية، واحتمالات حصول ارتداد أو انتكاسة، وعودة السرطان مرة أخرى، واكتشف الباحثون أن سرطان البروستاتا يمكن تقسيمه إلى خمسة أنواع مختلفة، تتراوح في مدى شراستها –حسب تعبير الباحثين- ما بين سلوك القطط الوديعة، وسلوك النمور المتوحشة، والمثير في هذا الموضوع، أن كل نوع من الأنواع الخمسة تلك، تميز بتكوين وراثي، أو بصمة جينية مختلفة، مما يفتح المجال لتصنيف أنواع سرطان البروستاتا قبل العلاج، بناء على الفحوصات الوراثية. وحتى وقتنا هذا، لا توجد طريقة مؤكدة وموثقة لمعرفة مدى شراسة وخطورة النوع المصاب به مريض سرطان البروستاتا، وما إذا كان الموقف يتطلب تدخلات جراحية وكيماوية شديدة الأثر وخطيرة على صعيد المضاعفات الجانبية، ولكن مع هذا الاكتشاف الجديد يمكن عند تشخيص الإصابة بسرطان البروستاتا، إجراء فحوصات وراثية تحدد النوع، وبالتالي مدى خطورة المرض، وبناء عليه يتم رسم خطة العلاج، واتخاذ التدابير الملائمة. ومثل بقية الأمراض السرطانية يعتبر التشخيص المبكر لسرطان البروستاتا من أهم النقاط في التعامل مع هذا المرض، وفي اختيار أفضل سبل العلاج، وهو الاختيار الذي يأخذ في الاعتبار عمر المريض، وحدّة وشراسة المرض، والمرحلة التي وصل إليها على صعيد الانتشار الموضعي، أو إلى المناطق البعيدة من الجسم. ويحتل سرطان البروستاتا حالياً المرتبة الثانية على صعيد عدد الحالات السنوية من بين جميع الأمراض السرطانية التي تصيب الرجال، كما يحتل المرتبة السادسة على صعيد عدد الوفيات الناتجة عن جميع الأمراض السرطانية بين الرجال. وتتباين معدلات الإصابة بسرطان البروستاتا بشكل واضح بين الدول والشعوب المختلفة، حيث تبلغ معدلاته حدها الأدنى في جنوب وشرق آسيا، لتزداد في الدول الأوروبية، وتبلغ أقصاها في الولايات المتحدة. وفي دولة الإمارات، تم اكتشاف وتشخيص 100 حالة إصابة بسرطان البروستاتا، حسب ما نقلته قبل بضعة أعوام إحدى وسائل الإعلام المحلية عن الجهات الصحية المعنية. وللأسف، تم تشخيص 41 في المئة من تلك الحالات في المرحلة الرابعة من المرض، وهي المرحلة الأخيرة، والأكثر صعوبة في العلاج، والأقل في احتمالات الشفاء والنجاة من المرض. وقد دفع هذا التباين والاختلاف بين الدول والشعوب كثيرين للاعتقاد بوجود عامل وراثي مهم خلف الإصابة بسرطان البروستاتا، بسبب طفرات في بعض الجينات وبالتحديد (BRCA1 & BRCA2)، وهي نفس الجينات المسؤولة عن الإصابة بسرطان الثدي وسرطان المبيض بين النساء، وهذه العلاقة بين سرطان البروستاتا والاختلالات الوراثية أصبحت تندرج تحت عموم ما يعرف بمنظومة سرطان العائلة (Family Cancer Syndrome)، وهي عبارة عن اختلال وراثي، يتم فيه توارث طفرة في جين واحد أو أكثر، مما يجعل هؤلاء الأشخاص أكثر عرضة للإصابة بأحد أنواع الأمراض السرطانية، أو الإصابة بالسرطان في سن مبكرة. ولا تؤدي منظومة سرطان العائلة فقط إلى زيادة احتمالات الإصابة بالسرطان في مراحل العمر المختلفة، وإنما ربما أيضاً باحتمالات الإصابة بعدد من الأمراض السرطانية المستقلة والمتباينة. ويعتبر اكتشاف علماء جامعة «كامبريدج» الأخير، خطوة مهمة لفهم العلاقة بين الأمراض السرطانية والعوامل الوراثية، وخصوصاً على صعيد تصنيفها حسب درجة الشراسة، واختيار الاستراتيجية العلاجية المناسبة، كما أنه سيصبح من الممكن يوماً ما، استخدام نتائج الفحوصات الوراثية، وجمعها مع الفحوصات الروتينية المستخدمة حالياً، للتعرف على الأشخاص الأكثر عرضة للإصابة بسرطان البروستاتا في المستقبل، ومن ثم اتخاذ إجراءات الوقاية، أو تفعيل التدخل الطبي بشكل مبكر، فمن المعروف والثابت والمؤكد أنه كلما كان اكتشاف المرض السرطاني مبكراً، كلما زادت احتمالات النجاة والشفاء منه.