قلتُ في مقالتي هنا يوم الأحد الماضي، إنّ الولايات المتحدة بعد أن تدخلت مجدداً بالعراق لمصلحة إيران عملياً، وبعد أن أجْرت الاتفاق النووي مع إيران، مضطرةٌ لإعطاء شيء لتركيا.. وربما للسعودية. وما كنتُ أفكّر بحزب العمال الكردستاني بالدرجة الأُولى، بل بالسماح الأميركي لتركيا بالتدخل في سوريا، وهو الأمر الذي رفضته الولايات المتحدة منذ عام 2012، وبالمقابل فقد رفضت تركيا المشاركة العملية في التحالف ضد «داعش»، كما رفضت السماح للولايات المتحدة باستعمال القواعد الجوية التركية في ضرب «داعش» بسوريا والعراق! لقد كانت الخسارة التركية كبيرةً بالغزو الأميركي للعراق عام 2003. فالعراق ذاته إنما أوجده البريطانيون عام 1920 ليكون منطقةً عازلةً بين إيران وتركيا. إنّ هدم الدولة العراقية بالغزو، وإدخال ميليشيات كردية وشيعية مسلَّحة إلى البلاد للحلول محلّ الجيش العراقي المنحل، عنى وقتها إعطاء العراق لحلفاء إيران من المعارضة الشيعية، مع امتيازات خاصة للأكراد في الدولة الجديدة. وكما في حالة سوريا بعد عام 2011، فإنّ تركيا وقتها رفضت السماح للطائرات الأميركية باستعمال أراضيها، وبدأت سياسات ودودة مع نظام الأسد لمعارضته الغزو الأميركي يومَها. وما خاصمت تركيا الأردوغانية إيران في العقد الأول من القرن الحالي، للمصالح المشتركة في الملف الكردي من جهة، وللفوائد الاقتصادية والتجارية والمالية المتحصلة لها نتيجة الحصار الأميركي لإيران. ومع أنّ أردوغان ما ساعد «المقاومة» ضد الأميركيين في العراق كما ساعدها الأسد في سوريا، فإنه ـ ولأسباب اقتصادية واستراتيجية ـ أقام علاقات حميمة مع مسعود البارزاني، بينما أقامت إيران علاقات مماثلة مع منافسه جلال طالباني، الذي صار أول رئيس كردي للعراق الجديد. وأذكر، وكنتُ مستشاراً لرئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة بعد مقتل رفيق الحريري عام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان، أنّ أحمد داود أوغلو وزير خارجية تركيا في حينه، أتى إلى بيروت مراراً للتوسط بين الحكومتين المتنازعتين. وكان يمثّل في الغالب وجهة النظر السورية. وبعد احتلال بيروت من جانب ميليشيا «حزب الله» عام 2008 صار يأتي إلينا مع وزير الخارجية القطري الشيخ حمد بن جاسم (وكانت قطر صديقة للنظام السوري أيضاً). وكانت آخر مرة أتى إلينا فيها الرجلان عشية إسقاط حكومة سعد الحريري من جانب نصر الله والأسد عام 2011. منذ التمرد السوري، ما اختلف الأتراك مع الإيرانيين فقط، بل اختلفوا أيضاً مع الأميركيين الذين ظلّوا يدعون الأسد للإصلاح، ويعارضون استعمال السلاح من جانبه أو من جانب معارضيه. ثم انسحب الأميركيون من معارضة الأسد بعد انتخاب روحاني وبدء التفاوض حول النووي مع إيران، بينما ازداد الدعم التركي للفصائل المقاتلة في شمال سوريا، كما احتضنت تركيا المعارضة السياسية السورية بشتى فصائلها. وعندما تدخل الإيرانيون عبر «حزب الله» والحرس الثوري منذ بداية 2013 من أجل حسم الصراع لمصلحة الأسد، فإنّ الأتراك وبطرائق مختلفة، مباشرة وغير مباشرة، نجحوا في إعادة توجيه المتشددين (مثل «النصرة» و«داعش») بسوريا والعراق. ردّ الإيرانيون على ذلك (هم والروس) بزيادة الدعم للأسد، لكنهم عجزوا عن مواجهة «داعش» في العراق، وطلبوا من المالكي والأكراد استصراخ أوباما الذي أتى مهرولا للدفاع عن الأكراد، ولإنقاذ حلفاء إيران في العراق. واصطدم الإيرانيون والأتراك في المنطقة الكردية بسوريا (عين العرب). إذ توجه «داعش» ليس ضد المسلحين في شمال سوريا فقط، بل وضد الأكراد المتحالفين مع الأسد ومع حزب العمال الكردستاني المدعوم من الحرس الثوري. وهدد أردغان مراراً بالتدخل العسكري عام 2015 عندما تقدم الأكراد بمساعدة طيران التحالف إلى مناطق الحدود على حساب «داعش». فلمّا أمنت إدارة أوباما لتحقق الاتفاق النووي، سمحت لأردوغان بالتدخل في سوريا. قال أوغلو إنّ التدخل التركي لن يعدّل الموازين في سوريا والعراق فقط، بل سيغيّر وجه المنطقة! وهذه مبالغةٌ كبيرةٌ. لكن الوضع الآن في سوريا: تركيا في مواجهة إيران، وهما إمّا أن يبقيا بالداخل السوري فتستمر الحرب، أو يخرجان بتسوية ما كان يمكن تصورها خلال الأعوام الثلاثة الماضية.