لم ينكر أحد من العرب حق إيران في أن يكون لها مشروع قومي، وأن تحلق بطموحها إلى آفاق بعيدة، وأن تطرح نفسها لاعباً إقليمياً، لكن حين تتصور طهران أن ما تراه حقاً يجب أن يقال ويقام على حساب جيرانها، فلن تجد من العرب سوى الرفض والتحدي والتصدي، وهي مسألة لها وزنها، وإن تظاهرت إيران أحياناً بعكس ذلك. كان أمام إيران سبيلان لبناء مشروعها: الأول هو التفاعل الإيجابي الخلاق مع جيرانها في الخليج العربي، عبر إجراءات للثقة، وتعزيز للمصالح والمنافع المشتركة، التي تعود بالخير على شعوب المنطقة بأسرها. والثاني هو الدخول في صراع مفتوح، يتراوح بين تحايل مكشوف وتحد سافر، وإصرار غريب على جعل العرب مجرد «مفعول به» في سبيل أن تحوز إيران مكانة، وتبني قوة إقليمية يعتد بها. ومن أسف فإن طهران اختارت السبيل الثاني، مع أن أياً من الدول العربية، باستثناء عراق صدام حسين، لم يبادر بهجوم عليها، أو يدبر ما يعرض المصالح الإيرانية للخطر، وكل ما فعله العرب في السنوات الأخيرة على هذا الدرب كان من قبيل رد الفعل على الاعتداءات الإيرانية. لقد تصرفت إيران قبل الثورة التي سرقها أتباع الخميني وبعدها دوماً على أن العرب «موضوع للعداء»، فخططت لاستغلال «المذهب الشيعي» مطيةً لتحقيق مشروعها القومي، وغازلت جماعات دينية سياسية سنية بزعم تقديم نموذج تسميه «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، وهللت لتقدم هذه الجماعات في الحياة السياسية العربية عقب انطلاق الثورات في بعض الدول، لأنها تمهد لخدمة المشروع الإيراني، فأطلقت على هذه الثورات «المدنية» لفظ «ثورات إسلامية»، لتربطها بنموذج ومصالح طهران، أو لأنها كانت ترى أن تلك الجماعات تخطط لسرقة الانتفاضات والثورات مثلما فعل الملالي بالضبط. وراحت إيران تدبر لمد نفوذها إلى العراق وسوريا ولبنان واليمن والبحرين وفلسطين بشكل مكثف من خلال تمويل وتدريب مجموعات وتجمعات مذهبية، لتكون أذرعها، مستغلة حالة تصدع العراق بعد الغزو الأميركي، والتفتت والتشتت السوري بعد انزلاق الثورة إلى حرب أهلية، والصراع الطائفي المزمن في لبنان، ورهانات الحوثيين في اليمن، وحاجة «حماس» الماسة إلى الدعم والتمويل، وإثارة مشكلات طائفية متكررة في البحرين. وقطعاً ما كان لإيران أن تفعل هذا لولا تراجع الفاعلية العربية، التي كان بوسعها أن تملأ الفراغات، وتبادر لإنهاء الخلافات في وقت مبكر، حتى لا تستفحل وتعطي طهران فرصاً متعاظمة لتحقيق أهدافها بأقل مجهود وكلفة ممكنة. لكن النزعتين الانتقامية والانتهازية اللتين سيطرتا على التحركات الإيرانية حيال العرب، خاصة في العقد الأخير، تثيران الغرابة، لاسيما أن طهران كان بوسعها أن تنمي نفوذها من خلال انتهاج الأسلوب الأول، أي التفاعل الإيجابي الخلاق، وكان العرب منفتحين على هذا الخيار، إلى أن حشرتهم السياسات الإيرانية في الزاوية، وضيقت البدائل أمامهم، فلم يجدوا بداً من المواجهة، وكان الإيرانيون في غنى عنها. ويبدو أن الإيرانيين لا يدركون في اندفاعهم الأهوج أمرين أساسيين، الأول أن العرب أمة، قد تضعف لكنها لا تموت، والثاني أن من مصالح أعداء العرب وإيران معاً، صب الزيت على الخلافات العربية الإيرانية، مرة بفتح باب الاقتتال المذهبي وأخرى بتسريع سباق التسلح في المنطقة، وهي مسألة كان على حكام إيران الالتفات إليها جيداً، خاصة أن التركيبة العرقية والمذهبية للدولة الإيرانية تجعلها غير محصنة من امتداد ما يجري في بعض الدول العربية إليها. إن مشروع إيران يحمل في باطنه بذرة فنائه، من خلال الانحياز إلى فتح باب الصراع مع العرب، أو استغلال جماعات وتنظيمات عربية كأوراق تلاعب بها طهران الغرب في دفاعها عن برنامجها النووي وأطماعها السياسية، لأن العرب ليسوا لقمة سائغة كما تتصور طهران، ولأن الأفضل لحكام إيران، لو كانوا ينظرون أبعد من أقدامهم، أن يكونوا مع العرب، في تعزيز المصالح الاقتصادية والأمنية والدفاع عن القيم الشرقية، وليسوا عليهم، لأن المعادلة الواضحة هي: «لن تبني إيران مجدها على حساب تدمير الدول العربية، فمثل هذا تفكير قاصر وإجرامي ومنافي لحقوق الجيرة والدين ومصالح الشعوب».