«عندما لا يحالفك التوفيق في أيّ شيء، فأيُّ بهجة في أن تختبر روحك، وترى إن كانت تملك العزم والشجاعة»! قال ذلك بطل رواية «زوربا اليوناني»، وهذا ما تختبره الآن اليونان التي بلغت ديونها 310 مليارات يورو، يعترف حتى مقرضها الرئيس «صندوق النقد الدولي» بأنها غير قابلة للتحصيل عملياً، وينبغي حذف قسم كبير منها، فيما تثير أكبر الدول المقرضة «ألمانيا»، التي تعتبر سدادها مسألة قانونية ومبدأية، موجة كراهية أوروبية شعبية بلغت حد تصوير وزير ماليتها بشارب هتلر! و«اليونان خروف التضحية»، عنوان مقالة مستفيضة علمياً وعاطفياً لعالم الاقتصاد «جوزف غليتز»، الحائز «نوبل»، وفيها يذكر أنه تابع خلال خمس سنوات التراجيديا اليونانية، وعاد لتوه من رحلة إلى أثينا تحدث فيها مع مختلف الناس، والمشكلة في تقديره لا تقتصر على اليونان و«اليورو» فحسب، بل تتعلق بالأيديولوجيا والسلطة، وما يدهشه أن البرنامج التقشفي ليس في صالح اليونان أو مقرضيها. والمشكلة نشأت أصلاً من برامج التقشف، التي تشبه الحكم بالسجن في القرن التاسع عشر على المدينين العاجزين عن السداد، أي القضاء بالتالي على أي فرصة لسداد الديون. وهذا ما فعلته باليونان والمقرضين برامج التقشف السابقة، التي خفضت ربع إجمالي المنتوج المحلي، ورفعت مستوى البطالة بمعدل الربع، وتبلغ النصف بين الشباب. و«حتى لو أقنعتني فإنك لن تقنعني». قال ذلك الكاتب المسرحي الإغريقي الكوميدي أريستوفان قبل 2500 عام، وليست اليونان المستسلمة لإرادة المقرضين وحدها غير مقتنعة، بل حتى خبراء الاقتصاد العالمي الذين يعتبرون الديون مصدر خلافات سياسية واقتصادية وحتى أخلاقية. «ولا نفع للأخلاق عندما نتعامل مع الديون، ولا جدوى من شيطنة المدين أو الدائن»، حسب «دالارا» مدير «المعهد الدولي للمالية»، الذي يعتقد أن اعتبار اليونان مذنبة يُعقدّ المشكلة، فالاتهام يثير استياء سكان الدول المقرضة، الذين لا يريدون رؤية ضرائبهم تذهب هباءً، وتثير استياءً عميقاً لدى اليونانيين، بلغت حد تصفيق البرلمان لرئيس الوزراء «تسيبراس» حين قال إن «صندوق النقد الدولي يتحمل مسؤولية جريمة الوضع القائم في اليونان». وفيما تنهمك التحليلات التقليدية بالمسرح السياسي اليوناني الراهن، تفوتها «فانتازيا» أول كاتب مسرحي كوميدي في التاريخ، «أريستوفان» الذي كان يقول «تحت كل صخرة سياسيٌ يتلصص». والمهم اليوم رؤية الصخور، وليس السياسيين. ولا تجدي أسئلة مثل، هل يجري «تسيبراس» انتخابات مبكرة لاستبدال نواب حزبه، الذين صوّتوا ضد البرنامج التقشفي بمرشحين موالين له، ومؤيدين للبرنامج، أم ينشئ تحالفاً مع أحزاب الوسط، وقد انتخبه الناس لتطهير اليونان من فسادها؟ فقيمة هذه الأسئلة مقارنة بـ«الفانتازيا» اليونانية كقيمة السؤال حول ما إذا كان «تسيبراس» سيعود لربطة العنق التي تخلّى عن ارتدائها، تقرُّباً لعامة اليونانيين الذين لا يرتدونها! و«الفانتازيا» اليونانية هي «فانتازيا» اليسار العالمي الذي توفيت أحزابه، وبقيت فلسفته حية نضرة أكثر من أي وقت مضى. فالاقتصاد الرأسمالي الذي أنشأته الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، انتهى، وانتهت معه الرأسمالية التقليدية. والقرن الحالي عصر ما بعد الرأسمالية، وفيه أصبحت المعلومات والتنظيم هي قوة الإنتاج الرئيسية. وهذا جوهر ما اكتشفه الفيلسوف ماركس، وفات على اليسار قراءته بإمعان. «أي بكلمات أخرى، فإن للتنظيم والمعرفة دوراً أكبر في قوة الإنتاج من دور العمل الذي يدير المكائن». ذكر ذلك «بول ميسن» المحرر الاقتصادي للفضائية البريطانية «4» في دراسته «بداية نهاية الرأسمالية». ويرى «ميسن» المستقبلَ الحاضر، الذي نعيشه دون أن نفقهه، قادماً عبر النكبات المناخية، وفضائح المصارف، والتقشف، وتنظيم «داعش». وهذه الأزمات في تقديره فرص، وكما حدث مع الإقطاع قبل 500 عام فالهزات الخارجية ستسرع مجيء النظام ما بعد الرأسمالي، الذي سيشكله نمط جديد من الكائنات البشرية، وتطلقه تغيرات أحدثتها تكنولوجيا المعلومات خلال 25 عاماً الماضية. وتجعلني توقعات «ميسن» أفهمُ «زوربا» الذي قال «المعنى الحقيقي للتنوير هو أن نمعن النظر ببصر ثاقب في الظلام كله».