قد يسهم الاتفاق النووي بين إيران والقوى الكبرى بشكل كبير في تغيير زاوية النظر إلى كثير من الملفات في المنطقة، ويتوقع أن تكون له أيضاً تداعيات على أجندات بعض دولها، وخاصة إيران التي عملت طيلة السنوات الماضية باللهاث، حتى انقطاع النفس، من أجل التوصل إلى هذا الاتفاق، وتحقيق توافق بأي ثمن مع مجموعة (5+1)، مدفوعة إلى ذلك بخسائر فادحة وضغوط مؤثرة كان أكثرها تضييقاً للخناق هو حزمة العقوبات الدولية المتلاحقة. وكان ذلك دافعاً لطهران لتدخل المفاوضات حول ملفها النووي بجدية، وقد اضطرت، في النهاية، لتقديم تنازلات مؤلمة كانت حتى وقت قريب تعتبرها أموراً سيادية وخطوطاً حمراء، من أجل إبرام هذا الاتفاق لتخفيف الضغط عليها، وأيضاً على أمل أن يسهم ذلك في دفع الغرب للاعتراف بدورها وقبول نفوذها في الشرق الأوسط، ولخشيتها، أخيراً، من أن تبقى معزولة بسبب دعمها للإرهاب، وتدخلاتها في شؤون بعض الدول الإقليمية غير المستقرة. وأعتقد أن الواقع الجديد الذي يفترض أن يسفر عنه الاتفاق يتيح فرصة ذهبية لإيران لكي تسعى لتعديل صورتها أمام المجتمع الدولي، وللعمل بجدية لإعادة الثقة مع جيرانها، وكل هذا يقتضي بطبيعة الحال إنهاء احتلالها للجزر الإماراتية الثلاث، والعمل على بناء جسور تعاون وثقة مع دول الجوار كلها.. وأيضاً أن تلجم شهيتها، التي انفتحت بشراهة، لبسط نفوذها وتوسعها في المنطقة، والكف عن دعم الميليشيات والمنظمات الإرهابية التي تعيث فساداً في هشيم ما تبقى من النظام الإقليمي. الإدارة الإيرانية الحالية قطعت خطوة على طريق إنهاء عزلة إيران الدولية الطويلة، من خلال تقديم تنازلات في الملف النووي، وما ترتب عليه، تالياً، من رفع العقوبات، إلا أن السؤال، بل التحدي الحقيقي الآن، هو: هل تنجح طهران في توظيف رؤوس الأموال التي ستتدفق عليها في التنمية الداخلية والمشاريع الخدمية؟ أم أنها ستضخها في خلق الفوضى ودعم الميليشيات والتدخل في شؤون جيرانها؟ وبما أن الوزير ظريف استطاع توظيف خبراته الدبلوماسية في مفاوضات الاتفاق النووي، فهل هو قادر، بالمثل، على أن يصل بكثير من الملفات العالقة الأخرى، مع دول الجوار، إلى بر الأمان، وبما يضمن سلامة المنطقة، ضد أية مخاطر محتملة، أو تسابق نحو التسلح لامتلاك أسلحة دمار شامل. وقد يرى بعض المحللين أن مهمة ظريف في الوصول إلى حلول دبلوماسية للملفات العالقة في المنطقة تحتاج أيضاً لتفاعل من بعض دول المنطقة. ولاشك أن شعوب المنطقة العربية، ودول الخليج جميعها بلا استثناء، دعاة سلام ومسالمون. وسيكشف اللقاء المرتقب في 3 أغسطس لجون كيري مع نظرائه في مجلس التعاون الخليجي في الدوحة، النقاب عن ماهية التوجهات الخليجية خاصة بعد اطلاعهم على كافة تفاصيل الاتفاق النووي، الأمر الذي سيمكن المجتمع الخليجي من التعرف على بنود الاتفاق والتنسيق حول خيارات التعامل مع المرحلة المقبلة. والآن، بعد توقيع الاتفاق، ثمة احتمالان لتأثيره، إيجاباً أو سلباً، على المنطقة: الاحتمال الأول: أن يُطمئِن الاتفاق النووي النظام في إيران على بقائه ومستقبله؛ وبالتالي لن يضطر لاستخدام الأوراق الإقليمية للضغط على الغرب، وهو ما قد يدفعه إلى تبني مقاربة أكثر مرونة في سوريا والعراق واليمن. وقد يدخل الاتفاق إيران في اللعبة الدولية، وهذا ما يعزز نهج (الاحتواء) الذي عادة ما تستخدمه الولايات المتحدة لتخفيف حدة التوتر في المنطقة، وخاصة إذا ما تلاقى ذلك مع النهج الإصلاحي داخل إيران، وهو نهج أقل ميلًا للتصعيد في ظل أوضاع اقتصادية متردية. وكل هذا قد يدفع إيران للتركيز على الداخل بشكل أكبر من الملفات الخارجية. الثاني: أن يدفع طهران إلى المزيد من التصلّب في الملفات الإقليمية، وأن تتخذ خطوات تصعيدية، انطلاقاً من تفاهمات، صريحة أو ضمنية، مع الغرب على تقاسم الأدوار في بعض ساحات المشرق العربي.