تجاوز عدد اللاجئين والمهجرين العرب في السنوات الثلاث الأخيرة 12 مليون فرد، بما يساوي حجم سكان دولة عربية متوسطة، ينحدر أغلبهم من البلدان التي انهار فيها بناء الدولة وتفكك النسيج الأهلي (العراق وسوريا وليبيا واليمن والصومال). الرقم يتضاعف مرتين إذا اعتبرنا معيار النزوح الداخلي، أي الانتقال القسري داخل البلد بأثر الفتن والحروب الأهلية والتطهير العرقي والطائفي. لم يعد من الممكن إذن النظر إلى الظاهرة كمجرد حدث عرضي، بل هي تعبير عن تغيير جوهري في الجغرافية السياسية العربية، أي نمط ضبط وتسيير المجال الإقليمي وما يرتبط به من معايير الهوية والسيادة والمواطنة. ماذا نقول عن مليوني عراقي في الأردن نزحوا منذ حرب 1991 وما تلاها من حروب فظيعة، وقد أصبحوا مكوناً رئيساً من مكونات النسيج الوطني، وإن لم تكن لهم حقوق المواطنة السياسية في الوقت الذي تقلصت فيه علاقتهم ببلدهم الأصلي؟ السؤال نفسه مطروح لأكثر من مليون سوري في الأردن يوجد عشرون ألفاً منهم في مخيم «الأزرق» وحده (شرق عمان)، الذي تحول إلى مدينة كاملة؟ وماذا نقول في مليون ليبي مقيمين بصفة دائمة في تونس، ومثلهم في مصر يتزايدون باطراد مع استفحال الأزمة الأمنية والسياسية في بلادهم؟ وفي جيبوتي أعاد اللاجئون اليمنيون بناء نمط حياتهم الجماعية، معوضين مدنهم الضائعة، بينما حاول الصوماليون الحفاظ على وجودهم الاجتماعي والثقافي في أحياء الهجرة الطويلة بكينيا والسودان، وهو حال لاجئي شمال مالي من العرب والطوارق الذين أسسوا مدناً كاملة في شرق موريتانيا. كان الجغرافي الأميركي «روبيرت ساك» قد بين أن الإقليم هو الذي يحدد الإطار الدلالي للمجال السياسي من حيث كونه نمطاً من ضبط السكان والمسارات والعلاقات الاجتماعية، بما يعني أن السلطة السياسية لا تتحكم مباشرة في الأفراد والمجموعات وإنما عن طريق وساطة الأرض. ومن ثم فإن الإقليم ليس معطى طبيعياً، بل هو مفهوم أداتي، وليس مجرد أرضية جغرافية لمجموعة معينة قائمة، بل هو وسيلة تحديد وإنتاج المجموعة السياسية. ولذا فالإقليم معطى مصطنع مبني وليس فطرياً أو بديهياً. لكل ثقافة تصنيفات للإقليم تتوقف عليها تصوراتها السياسية من محددات هوية وشرعية ومواطنة، وقد مرت المجتمعات الإنسانية بنموذجين كبيرين من نماذج التصورات الإقليمية، هما النموذج الإمبراطوري الوسيط ونموذج الدولة الوطنية الحديث، بينما كرست الديانتان الكونيتان الكبيرتان، المسيحية والإسلام، مقاربتين مختلفتين ركزت أولاهما على بعد السيادة المرتبطة بالأرض، في حين ركزت ثانيتهما على بعد الأمة أي الجماعة الأخلاقية. بيد أن الرؤية الحداثية للعالم قامت في تصورها للإقليم على فكرة الصياغة الهندسية والميكانيكية للعالم، بما تعنية من فهم تجانسي للمجال الأرضي وميل للتصنيف والتحديد وضبط الخرائط الفاصلة، مما ترجمته المقاربات السياسية الحديثة للدولة السيادية التي تكرس تصوراً أحادياً إطلاقياً للهوية والمواطنة مرتبطاً بالدائرة الجغرافية المشتركة. إنه النموذج الذي وقع اختباره عربياً منذ نشأة الدولة الوطنية الحديثة وتم تحصينه بقوانين وآليات ضبط وفصل دقيقة وصارمة، رغم أن الحقل السياسي الفعلي ظل عصياً على الانغلاق في حدود التدبير السيادي للإقليم، ومن هنا الإشكالات المستمرة ذات الصلة بالهوية في جوانبها الدينية والقومية وأنماط التداخل والترابط الجماعية التي تتجاوز حيّز الحدود الوطنية. ما كشفت عنه أزمات «الربيع العربي» هو أن النموذج المؤسسي الذي قامت عليه الهندسة السياسية العربية الحديثة (إنتاج المجتمع السياسي عن طريق هياكل الدولة) لم يراعِ طبيعة الثقافة السياسية والقيمية للمجتمعات العربية، وباختلال قواعد وآليات التدبير السياسي للمجال الإقليمي، بانهيار الدولة المركزية، انفجرت رهانات المواطنة والهوية وتغيرت طبيعة الجغرافيا السياسية للمنطقة ودولها. وفي التعامل مع ظواهر مماثلة، اقترح بعض علماء الاجتماع الأفارقة الانتقال من نموذج الدولة الوطنية الأحادية إلى نموذج الدولة مركبة الهوية والمواطنة التي هي حالة فيدرالية واسعة لها أنظمة قانونية متعددة، بحسب دوائر الولاء والاندماج ولها أنظمتها التمثيلية التي تجمع بين المواطنة الفردية والمواطنة المجموعاتية. لا تعني هذه الملاحظة التضحية بالدولة الوطنية، فلا تزال عند الإمكان حصناً منيعا من التفكك والفتنة، لكنها عندما تصبح عاجزة عن تأمين السلم المدني والاندماج الاجتماعي، لابد من التفكير ببدائل ناجعة للهندسة السياسية. ----------------- *أكاديمي موريتاني