انطفأت الشمعة التي أضاءت دنيا الدبلوماسية على مدى خمسة عقود متواصلة، حيث رحل سعود الفيصل، الرجل الذي كان شاغل الدنيا وحديث الناس طوال حقبة من أخطر حقب التاريخ المعاصر، وأكثرها ازدحاماً بالأحداث والصراعات والأزمات، من تلك التي عاصرها سموه لحظة بلحظة فتألم لأتراحها، وفرح لأفراحها، وساهم في صنع سلامها أو إطفاء نيرانها. لن نسمع اسمه بعد اليوم يتردد في نشرات الأخبار، ولن نسمع صوته يدوي في المحافل العربية والدولية مدافعاً بشراسة عن قضايا بلده وشعبه وأمتيه العربية والإسلامية، ومجسّداً بفخر وجه المملكة العربية السعودية وثقلها الديني والسياسي والاقتصادي على نحو ما اعتدنا منه طيلة أربعين عاماً من قيادته للدبلوماسية السعودية. غير أنّ عزاءنا هو أنّ الراحل الكبير ترك لنا تاريخاً ناصعاً في كيفية رسم وصياغة وإدارة العلاقات الخارجية بمهارة غير مسبوقة حسده عليها الكثيرون من نظرائه، بل ترك للعاملين في الحقل الدبلوماسي السعودي والخليجي مدرسةً ومنهاجاً جديراً بالتأمل والاقتداء، ورسّخ مفاهيم على رأسها مبدأ الشفافية في العمل، والانتظام في الأداء بجدية دون كلل، والهدوء في اتخاذ القرار دون تسرع، والتواصل مع التطورات العالمية عبر القراءة المستمرة باللغات الأجنبية، والابتعاد عن البهرجة والشعارات والتصريحات الفارغة. والدليل على صحة ما نقول لجهة حنكة الرجل وسداد رؤيته، وعلو قامته ومقامه وهامته في دنيا الدبلوماسية العربية والعالمية هو ما صدر من تصريحات وتعليقات من قادة وساسة العالم بمجرد إعلان خبر وفاته بمدينة لوس أنجلوس الأميركية. فلولا المزايا الكثيرة التي اتسمت بها شخصية سعود الفيصل، وحكمته واطلاعه غير المحدود وإجادته العديد من اللغات العالمية الحية التي أكسبته احتراماً وشبكة واسعة من العلاقات والصداقات في الغرب والشرق لما سمعنا قادة الدول الكبرى يصرحون بأنهم استفادوا من خبرة وتجارب وثقافة واتزان الأمير الراحل، ولما قرأنا أحد نظرائه العرب يصفه بداهية العرب ويقول عنه إنه كان صانعاً للسلام وعامل توازن ورجل مواقف وليس شعارات، فيما وصفه نظير آخر له بأنه كان صوت العقل والرصانة، ولما سارعت وكالة أنباء كبرى مثل رويترز إلى نشر خبر عن رحيله مذيلاً بعبارة: «أثبت براعة في تجنب المجاملات الدبلوماسية المنمّقة وقدم رسالة بلاده بشكل متقن وجوهري»، ولما قال عنه وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ عبدالله بن زايد إنه كان صمام الأمان في السياسات الإقليمية والدولية، ولما رأينا أكثر من مليون تغريدة على شبكة التواصل الاجتماعي يوم أن ترجّل عن جواده في 9 يوليو الجاري. شخصياً أعتز بصداقة زميل سعودي من أيام دراستي في المملكة ممن التحق بالخطوط الجوية العربية السعودية وتقلّب في مناصبها حتى صار أحد كبار قباطنتها الذين عادة ما توكل إليهم عملية نقل كبار المسؤولين في مهمّاتهم الخارجية حول العالم. يقول الصديق، من واقع تجربته العملية، إنه لم يرَ ضمن من نقلهم من مسؤولين سعوديين مسؤولاً في تواضع الأمير الراحل وبشاشته ولطفه وكرمه وحرصه على السؤال عن الطاقم المكلّف بنقله فرداً فرداً. ويضيف قائلاً: «كان رحمه الله يقضي ساعات الطيران الطويلة في العمل المتواصل والنقاش مع مرؤوسيه حول الملفّات التي تنتظرهم في ميناء الوصول، فإذا ما سنحت له فرصة للاسترخاء هرب منها إلى قراءة كتاب حديث في السياسة أو الدبلوماسية أو التاريخ المعاصر». هذا هو المغفور له بإذن الله تعالى صاحب السمو الملكي الأمير سعود الفيصل الذي غادر دنيانا في وقت أحوج ما تكون فيه أمته إلى حنكته الدبلوماسية وتجاربه الغنية، ولعلّ أكثر ما يبكينا وهو يغادرنا إلى رفيقه الأعلى أن أهم طموحاته وأكثرها قرباً إلى نفسه، وهو قيام الاتحاد الخليجي، لم يتحقق. هو الذي كان له دور مشهود في وضع لبنات مجلس التعاون لدول الخليج العربية في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، قبل أنْ يعزّز تلك اللبنات بصياغة ورسم توجّهات هذا الكيان الخليجي السياسية والاقتصادية والدفاعية. وأخيراً فإن من صنع شخصية الراحل المثابرة ومناقبيته ليست جامعة برينستون الأميركية التي تخرج فيها عام 1964 حاملاً شهادة البكالوريوس في الاقتصاد، وليست المناصب التي تقلدها في المؤسسة العامة للبترول فوزارة البترول والثروة المعدنية في سبعينيات القرن الماضي، وإنما مدرسة والده الراحل المغفور له الملك فيصل بن عبدالعزيز الذي قاد الدبلوماسية السعودية منذ أن كان في سن السادسة عشرة وحتى حادثة اغتياله الغادرة عام 1975، ثم مدرسة والدته المثقفة الملكة «عفّت الثنيان الفيصل» التي عُرفت بدفاعها الصلب عن حق الفتاة السعودية في التعليم النظامي. * باحث ومحاضر أكاديمي في الشأن الآسيوي من البحرين