كان التفجير الذي وقع في مدينة سَروج على الحدود التركية السورية مرحلةً جديدةً في تطورات الصراع بالمنطقة. فهو تفجيرٌ تقاطعت فيه عدة خطوط ومصالح: الأكراد بين إيران وتركيا، وتركيا والعلاقة بالعلويين في الداخل التركي والداخل السوري، والعلائق الغامضة بين تركيا و«داعش»، والتوتر الأردوغاني الناجم عن السياسات الأميركية في سوريا والعراق. الذين كانوا يقيمون المناسبة في المركز الثقافي بمدينة سَروج الحدودية، معظمهم من الأكراد والعلويين الأتراك والسوريين. وكان الهدف حشد الدعم المادي والسياسي لإعادة إعمار كوباني (عين العرب)، فالجهات المشاركة كلها من خصوم أردوغان. وقد سارع رئيس الوزراء التركي إلى اتهام «داعش»، ليس لتحديد الجاني، وإنما لتجنب الإحراج والتساؤلات، ثم تبين أنّ المسؤول عن التفجير شاب تركي، وما أعلنت أي جهة بصورة واضحة عن تبنيها لذاك التفجير. أما «حزب الشعب» الكردي فسارع لقتل شرطيين تركيين وأعلن عن العملية بكل فخار. وهذا يعني احتمال انهيار مهادنات التصالح بين حكومة أردوغان وجماعة أوجلان، والمستمرة لأكثر من ثلاث سنوات. وقد اكتسب الأوجلانيون بعد هجمة «داعش» قوةً جديدة، فقد نجحوا في الانتخابات التركية. ولمسلحيهم ملاذات آمنة الآن ليس في جبل قنديل فقط، بل وفي منطقة نفوذ طالباني بكردستان، وأخيراً في المنطقة التي «حرروها» بسوريا. ثم إنهم يقاتلون معاً هم والنظام السوري في مدينة الحسكة السورية على الحدود التركية. وكان الإيرانيون بعد نشوب الحرب في سوريا قد اختلفوا مع أردوغان على عدة أمور باستثناء أمرين: معارضة قيام دولة كردية في العراق وسوريا، واستمرار العلاقات التجارية بين الطرفين. لكن الإيرانيين الآن يختلفون مع أردوغان علناً حتى في المسألة الكردية. فالبارزاني حليف أردوغان انتهت مدته أو أوشكت في رئاسة الإقليم، والطالبانيون يعارضون التجديد له (يدعمهم الإيرانيون)، حتى لو كان الثمن انفصال السليمانية عن أربيل! ولا تقتصر متاعب أردوغان في سياساته مع الإيرانيين وأكراد أوجلان على هذا الأمر، بل هو ضائقٌ ذرعاً بانحياز الولايات المتحدة لإيران وبشار الأسد في سوريا والعراق. فعنده قرابة مليوني سوري بين لاجئ ومُعارض سياسي. وعلى الحدود تتنامى القوى الكردية المسلَّحة من جانب الأميركيين والإيرانيين. والأميركيون ما يزالون يعارضون بقوةٍ التدخل التركي في شمال سوريا، أو إقامة منطقة آمنة للاجئين والمعارضين. وقد كثرت الاتهامات للمخابرات التركية بالتعاون مع «داعش»، وإطلاقه باتجاه سوريا والعراق. وكان دفاع أردوغان الأقوى عن نفسه أنه ما كان يمكن له دعم الدواعش لمواجهة حليفه البارزاني. وأردوغان نفسه يُظهر تعجبه من إصرار الأميركيين على طول زمن الحرب مع «داعش»، مع أنه يمكن القضاء على التنظيم في سوريا على الأقل خلال شهرٍ واحد، لو سُمح له بالتدخل! ماذا يمكن أن يفعل أردوغان الآن؟ قبل شهر وعندما تقدم الأكراد بعد أخذ كوباني باتجاه تل أبيض وعين عيسى، اتهمهم أردوغان بتهجير العرب والتركمان من تلك النواحي، وحشد الجيش التركي قواه على الحدود كأنما هو سيزحف إلى داخل سوريا خلال ساعات. والأميركيون قالوا: ممنوع التدخل، وخففوا في الوقت نفسِه من الاندفاعة الكردية. بيد أنّ تفجير سَروج يفتح على الاحتمالات كافة. بعد الاتفاق مع إيران، أميركا مضطرة إلى التنازل في مكان لصالح تركيا ولصالح السعودية. والمعروف أن أبا زيد السّروجي هو بطل مقامات الحريري، بينما كان أبو الفتح الإسكندري هو بطل مقامات بديع الزمان الهمذاني. فالذي يبدو الآن أنّ أردوغان واقعٌ بين الهمذاني الإيراني والسّروجي الكردي العلوي. والخطر في مسألة السّروجي أنه يملك أنصاراً كثراً بداخل تركيا! اللهم لا شماتة، فالاقتتال يجري في كل مكان على أرض عربية. والإيرانيون والأتراك والأكراد والعلويون والشيشان والفاطميون والزينبيون والداعشيون التونسيون والبلجيك.. إلخ، كلهم يريد الاقتطاع من هذه الأرض، وعلى حساب الشعبين السوري والعراقي: السوريون طُرد منهم من أرضهم أربعة ملايين خلال أربعة أعوام. والعراقيون تهجّر منهم ثلاثة ملايين خلال عامٍ واحد. فيا للعرب! -------------- *أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية -بيروت