لا بأس في توظيف بعض من خبرة التاريخ في تقييم اتفاق فيينا النووي الأخير إذ تشير هذه الخبرة إلى أنه لا توجد اتفاقات عادة تنفذ بحذافيرها كما أنه لا توجد أيضاً اتفاقات تصمد إلى الأبد، وبغض النظر عما قيل من أن الاتفاق يضمن ألا تمتلك إيران سلاحاً نووياً فإن الأمر شبه اليقيني أنها أصبحت دولة نووية باعتراف المجتمع الدولي! ومن المعلوم أن الدولة ذات القدرات النووية السلمية قادرة على أن تتحول يوماً ما إلى امتلاك قدرة نووية عسكرية إذا تغيرت الظروف. ومع ذلك فإن امتلاك إيران سلاحاً نووياً، ولو بعد عشرين سنة، ليس أكثر ما يعنيني الآن لأن خبرة التاريخ أيضاً تشير إلى أن السلاح النووي منذ استخدامه للمرة الأولى والأخيرة في نهاية الحرب العالمية الثانية قد أصبح سلاحاً للردع أي لإثناء المعتدي عن نية العدوان وليس للاستخدام الفعلي في ساحات القتال، بمعنى أن امتلاك إيران سلاحاً نووياً في المستقبل لن يكون معناه مثلاً أنها ستستخدمه ضد إسرائيل وإنما سيعني رسالة لإسرائيل بأنها لم تعد قادرة على أن تهاجمها دون عقاب رادع. وما يقلقني تحديداً هو أن تكون إيران دولة نووية باعتراف المجتمع الدولي، وأن يفتح لها هذا الاعتراف آفاق تطوير قدراتها النووية، فيما نبقى نحن على حالنا، وهو ما سيعني في المستقبل أنه لن يكون ممكناً لنا هزيمة إيران في أي صراع مصيري لأن السلاح النووي سيحول دون ذلك باعتباره رادعاً أكيداً، وهذا بالمناسبة هو حالنا الآن مع إسرائيل! وهو وضع يرتب علينا التفكير ملياً في الاستراتيجيات المستقبلية لحماية أمننا ووسائل تنفيذها. قلت إن امتلاك إيران سلاحاً نووياً ولو بعد عشرين سنة ليس أكثر ما يعنيني الآن للاعتبارات السابقة، وإنما الأهم هو أن هذا الاتفاق سيفضي إلى رفع تدريجي للحظر الاقتصادي والنفطي والمالي عن إيران في غضون الأشهر القليلة المقبلة واستعادة أرصدتها المجمدة في الولايات المتحدة وأوروبا بمليارات الدولارات. صحيح أن هذا سيتوقف على التزام إيران بالاتفاق ولكن من يتصور أن إيران يمكن أن تقدم على أي خطوة تضيع عليها ثماره، وسيؤدي هذا الرفع التدريجي للعقوبات إلى زيادة ملموسة في القدرات الإيرانية ولا شك أنها ستنعكس إيجابياً على الظروف الاقتصادية للشعب الإيراني وهو ما يسعدنا ولكنه سيؤدي في الوقت نفسه إلى قدرات إيرانية أكبر على التحرك الخارجي، الذي نعد مجاله الحيوي الأول بالنسبة لإيران! ومن المعروف أن لإيران مشروعها الإقليمي، الذي تَباهت تصريحات رسمية مؤخراً بالإنجازات، التي تمت فيه وسُميت تحديداً بالإمبراطورية الإيرانية، التي تمتد عبر أربع دول عربية بغض النظر عن الادعاء بأن هذه التصريحات قد فهمت أو ترجمت خطأً، وهو سلوك إيراني معتاد على أي حال. ولذلك فإن لدينا نحن العرب هواجسنا دون شك من تداعيات اتفاق فيينا على أمننا ليس بالمعنى النووي وإنما السياسي. وقد نقلت وكالة «فرانس برس» عن مصدر إماراتي أن الاتفاق «يمثل فرصة حقيقية لفتح صفحة جديدة في العلاقات الإقليمية والدور الإيراني في المنطقة» مستدركاً أن ذلك «يتطلب مراجعة إيران لسياساتها الإقليمية بعيداً عن التدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة»، كما نقلت وكالة «رويترز» عن مسؤول سعودي أن الاتفاق النووي سيكون يوماً سعيداً للمنطقة إذا منع إيران من امتلاك أسلحة نووية ولكنه سيكون يوماً سيئاً إذا أتاح لها أن تعيث في المنطقة فساداً. وقد تفاءل البعض خيراً بتزامن إعلان الاتفاق مع التقدم الذي حققته المقاومة الشعبية اليمنية في عدن وغيرها ضد الحوثيين ولكنني أفضل أن أنظر إلى هذا التطور في إطار نمو قدرات المقاومة وفعالية دعم التحالف العربي لها، وليس باعتبارها بادرة حسن نية إيرانية وخاصة أنني لا أتصور إمكان تخلي إيران عن مشروعها الإقليمي. ويعني هذا أن علينا أن نبدأ فوراً الإجابة عن سؤال: ما العمل؟ وليس أمامنا إلا الاندفاع بأقصى طاقتنا إلى تحصين جبهاتنا الداخلية فذلك هو أفضل تدبير ضد عبث إيراني محتمل، وأن نتحسب بأقصى يقظة لأي تحرك إيراني قادم يمس أمننا كما حدث في سابقة عاصفة الحزم، وأخيراً فإن ثمة سؤالاً مشروعاً: أليس هذا هو الأوان المناسب لوضع المشروع النووي السلمي العربي موضع التفكير؟