لاشك أن الاتفاق النووي الإيراني الأميركي الأخير يحتاج وقفات تأملية عديدة، فعدم ثقة الطرفين في بعضهما البعض جعلت الاتفاق بين الشيطان الأصغر والأكبر مسألة مضحكة، خاصة أن العديد من المراقبين يعتبرون أن الخلاف الظاهري بينهما، والذي استمر لفترة طويلة، يخفي وراءه علاقات ومآرب وأهداف مشتركة ساهمت في إيصال المنطقة إلى حالتها الراهنة. الاتفاق المدعوم بالتنازلات المذهلة التي قدمها الجانبان، خاصة الشيطان الأصغر الذي جوّع وشرّد شعبه طول السنوات الماضية، ثم عاد ليتنازل عن كل شيء، أمر يدعو للاستغراب، فالسنوات المهدرة جاءت في نهايتها بلا حصاد، والعناد جرّ البلاد وشعبها لمختلف العقوبات، مما لم يكن له داع طالما أن النهاية ستتمثّل بإعادة الوضع إلى مربعه الأول، فما عاندت إيران لأجله، عادت وتراجعت عنه، ومثل هذا التّصرف ليس جديداً عليها، ففي الثمانينيات خاضت حربها ضد العراق ثم عادت بعد ثماني سنوات إلى ذات المربع الذي بدأت منه. الاتفاق النووي الإيراني الأميركي ليس سوى مرحلة جديدة من مراحل الخداع السياسي الهادف لخلط الأوراق، فأميركا وإيران خلافهما في الظاهر فقط، والدليل هو غضّ الطّرف الأميركي عن الأفعال الإيرانية في سوريا ولبنان، واحتلال أميركا للعراق وخروجها منه بعد تسليمه كاملاً لإيران التي مازالت تعيث فيه قتلاً وتنكيلاً تحت بصر وسمع الولايات المتحدة. إيران لا تزال في أضعف حالاتها، فهي تعاني من مشكلات داخلية عميقة، وتعرف حرباً شرسة بين المتشددين والمحافظين، وتعيش معظم قطاعات شعبها تحت خط الفقر. فكر الملالي المؤمن بوهم تصدير الثورة ساهم ولا يزال في تبديد ثروات إيران ومواردها عبر تغذية الفعل الشيطاني لأذناب الملالي في الخارج، لإثارة الفوضى وتهديد المنطقة بذرائع مختلفة. فـ«حزب الله» في لبنان، وبعد مراوغات طويلة باسم المقاومة، كشف قناعاته أخيراً، ودخل حلبة الصراع السوري علناً، وجرّ الحرب بطرق غير مباشرة للبنان، وبكل تبجح أعلن أمينه العام أن تحرير فلسطين يمر عبر القلمون ودرعا، بينما الحوثيون الذين زرعتهم إيران في اليمن يقررون أن استقرار اليمن يبدأ بتدميره وقتل سكانه واحتلال مدنه وطرد الشرعية منه.. وكذلك الأمر في العراق الذي أطلق فيه الملالي يد قاسم سليماني. الحصار الخانق الذي عانت منه إيران جراء العقوبات الاقتصادية، حدَّ نوعاً ما في الفترة الأخيرة من نشاط أذرعها في المنطقة، وهو ما يستدعي النظر للجانب الآخر من المسألة. فالولايات المتحدة حين أرادت الوصول للحلقة الأخيرة من التوقيع على الاتفاق، ضغطت على إيران بطريقة غير مباشرة في سوريا، حيث تراجعت قوات بشار الأسد هناك، وعبر مزيد من إضعاف الحوثيين، وإضعاف القبضة الإيرانية في العراق، وفي العدد الكبير من ضحايا «حزب الله».. هذا الضغط في أيام قليلة أفضى للتوقيع التنازلي الكبير. إن تقدم «داعش» وتقهقرها مثلا، يرتبط دائماً بأحداث تقود خيوطها بعض الدول الكبرى. قد لا تكون لتلك الأحداث صلة مباشرة بأرض المعركة، كما حدث في الاتفاق بين إيران وأميركا، ففي أيام المفاوضات الأخيرة، كان كل تقدّم أو تأخّر في المفاوضات، يتبعه فعل متغيّر في خريطة حروب المنطقة، ما جعل المراقبين يتشاءمون من أفعال إيران في الفترة المقبلة رغم التطمينات التي حاول أوباما بثّها لتلطيف الأجواء، فدول المنطقة ما عادت تثق في وعود أميركا ولا إيران، لأنهما معاً يجرّان المنطقة للصراع، والإمساك الخفي بخيوطه والرغبة في إشعاله. التحالف العربي الذي تمكن من تحرير عدن ويعمل على تحرير كامل التراب اليمني من قبضة الحوثيين الذين يتحركون بأوامر إيران، هو الوحيد القادر على كبح الأحلام الصفوية المدعومة بمباركة أميركية غير معلنة.