في النصف الثاني من القرن العشرين، كان من غير المألوف أن يُذكر اسم الولايات المتحدة الأميركية في حدث سياسي إلا مقروناً بذكر كوبا أو فيتنام أو البلدين معاً. فكوبا، تلك الجزيرة الصغيرة القريبة من ميامي في جنوب الولايات المتحدة، سبق أن تحدّت واشنطن في مطالع الستينيات، بالاستفادة من دعم الاتحاد السوفييتي السابق حيث تحولت إلى قاعدة استراتيجية وعقائدية له على بوابات أميركا. والحال أن كوبا منذ انتصار ثورتها بقيادة فيديل كاسترو في 1959، وخصوصاً منذ فشل غزوة «خليج الخنازير»، والأزمة النووية في أوائل الستينيات بين جباريْ ذاك الزمن، صارت أشبه برمز للصمود والتحدي في وجه «اليانكي» الأميركي الهائل الجبروت. أما فيتنام فهي البلد الذي استطاع طرد الأميركيين في أواسط السبعينيات عبر حرب مديدة صارت مضرب مثل في الإصرار والتضحية، ولاسيما أن هذا الانتصار كان قد أعقب انتصاراً آخر للفيتناميين على فرنسا في أواسط الخمسينيات، توّجته معركة «ديان بيان فو» الشهيرة. وكذلك مهّد الانتصار على أميركا لضم فيتنام الجنوبية إلى فيتنام الشمالية ذات الحكم الشيوعي، ولتعظيم طريقة حرب العصابات في مواجهة الجيوش الكلاسيكيّة، وهي الطريقة التي سبق أن جُربت بنجاح في الصين وكوبا وبلدان أخرى. وإلى ذلك كلّه، كان ما أعطى الحرب الفيتنامية هذا الحجم الرمزي الضخم، وجعلها قدوة لشبيبة العالم المتمرّدة، انعكاسها على الرأي العام الغربي، خصوصاً الأميركي، وظهور ما عُرف بـ«عقدة فيتنام» في الحياة والسلوك الأميركيين. واليوم يحضر ذكر هذين البلدين في سياق آخر مختلف تماماً، لا صلة له البتة بتحدي أميركا أو إلحاق الهزيمة بها. ففي الأسبوع الماضي، وفيما التفاوض جارٍ مع إيران في صدد الملفّ النوويّ، كانت الولايات المتحدة وكوبا تتبادلان فتح السفارتين المغلقتين في كلّ من واشنطن وهافانا بعد نحو من نصف قرن، وكان الرئيس الأميركي أوباما يستقبل في البيت الأبيض الأمين العامّ للحزب الشيوعي الفيتنامي «نغوين فو ترونغ». وهذه العناوين مأخوذةً معاً تدلّ، من جهة، إلى تحولات تشق طريقها في العلاقات الدولية ببطء وتعثر، ومن جهة أخرى إلى الأوبامية بوصفها نهجاً تصالحياً وطامحاً إلى محو آثار الماضي السلبي الذي حكم علاقة الولايات المتحدة بأجزاء من العالم في زمن الحرب الباردة. وتبعاً لما تناقلته وسائل الإعلام الأميركية والعالمية عن الزيارة وأسبابها ونتائجها، ترتسم حقاً المسائل الصاعدة في العالم المعاصر (المصالح، التعاون، التجارة...) على حساب المسائل الهابطة والمتراجعة التي تكاد اليوم للأسف تنحصر في منطقتنا (الحروب، التعصب، التوتر.. إلخ). وواقع الحال أن ثمة أسباباً عدة تسند التوجه الجديد الذي يرعاه أوباما. فهو الآن يعمل على إنشاء «الشراكة العابرة للمحيط الهادئ»، وهي اتفاقية تجارية تشمل 12 بلداً في عدادها فيتنام، حيث ستُلغى في ما بينها الرسوم الجمركية على السلع والخدمات. وجدير بالذكر أن الاتفاقية هذه، وهي الأكبر في التاريخ التجاري للمعمورة، ستشمل 40 في المئة من حجم التبادل التجاري في العالم. وبالفعل، وقبل بدء العمل بهذه الاتفاقية، اشترت فيتنام مؤخراً 19 طائرة أميركية من طراز «دريم لاينر» التي تسلمت للتو دفعة منها. وهناك طبعاً البُعد الاستراتيجي المحكوم بالحد من نفوذ الصين، من غير أن يرقى ذلك إلى قرع لطبول الحرب. فالمعروف أن الصين ذات طموح معلن في بحر الصين الجنوبي، وقد نشرت عتادها العسكري في جزر «سبارتلي» المتنازع عليها مع دول أخرى بينها فيتنام، على أمل فرض توازن قوى يعطيها اليد العليا في تلك المنطقة الغنية بالنفط والغاز، فضلاً عن الثروة السمكية، والتي تُعد المياه المحيطة بها ممراً مهمّاً للتجارة البحرية. وواضح أن الولايات المتحدة تعمل وتنسّق مع دول آسيوية بينها فيتنام التي تربطها بالصين علاقة تاريخية حساسة ومعقدة ومليئة بالمخاوف. ففي 1979 نشبت بينهما حرب غذّاها الصراع على كمبوديا. ولكنْ يبقى أن التنافس الصيني- الفيتنامي الراهن مرشح للضبط بقنوات دبلوماسية وتجارية لم تكن قائمة في زمن الحرب الباردة. وهو ما تحاول الولايات المتحدة استثماره، تماماً كما تحاول منافسة بكين على بعض الأسواق، وفي عدادها مؤخراً السوق الكوبية. لقد أبدت فيتنام، منذ التطبيع في 1995، لهفتها لاستقبال الاستثمارات الأميركية والغربية التي لم تتأخر في التوجه إلى «هانوي»، مصحوبة بأفواج متعاظمة من السيّاح. واليوم مع انتقال السياسة الأميركية من طور إنهاء النزاعات إلى طور تصفية ذيولها، يتكرّس انتقال فيتنام من طور الاعتداد بحربها التي أذلت فيها أميركا إلى طور الرهان على الفوائد التجارية والاستراتيجية للعلاقة بأميركا نفسها. وإذ نتذكر أن «هانوي» الشيوعية هي اليوم أقرب إلى واشنطن الرأسمالية منها إلى بكين الشيوعية هي الأخرى، في تكرار لما كان يجري إبان الخلاف السوفييتي- الصيني، نتأكد من أن العالم يتغير... إلا عندنا.