لقد نشأ المستشرق في الغرب، وتعود على بيئة ثقافية يضع فيها المفكر فكراً أو يبني مذهباً ثم ينسب هذا المذهب إليه. فبعد أن أسقط عصر النهضة كل الأنماط النظرية القديمة للواقع، وأصبح الواقع عارياً من كل أساس نظري، اضطر المفكرون إلى البحث عن نظريات يُفهم الواقع على أساسها. فنشأت المذاهب الفلسفية والتيارات الفكرية كي تسد هذا النقص النظري، ونسبت الأفكار إلى مَن صاغوها، ومن ثم ظن المستشرق أن كل حضارة لابد وقد نشأت بالضرورة على نمط الحضارة الغربية، ونسب إلى كل من ابن سينا والفارابي وابن رشد مذهباً وتحدث عن السينوية والرشدية، ونسب إلى الأشعري مذهباً وتحدث عن «الأشعرية» بل إن بعض معاصرينا رغبة منهم في التشدق بالخلق الفني والفكري يحولون اسمهم ويجعلونه عنواناً لمذهب. وفي كثير من الأحيان لا يكون للمؤلف الإسلامي مذهب واحد. فمثلاً ما هو مذهب الغزالي، هل هو التصوف أم الفلسفة أم المنطق أم الأخلاق.. الخ؟ وما هو مذهب ابن سينا؟ هل هي الفلسفة أم التصوف أم العلم؟ وما هو مذهب ابن رشد؟ هل هو الفقه أو الكلام أم الفلسفة أم العلم؟ هناك إذن تيارات فكرية قد تتخلل المؤلف ولا يكون هو إلا عارضاً لها. وهناك علوم عامة تنشأ من الوعي الديني بتحوله إلى حضارة تتخلل المؤلف ولا يكون هو إلا مصنفاً فيها. ومن هنا ظهر التكرار والنقل والاستعارة من المؤلفين بعضهم من بعض آخر لأن العلم موضوعي، مشاع للجميع، لا ينتسب إلى فرد دون آخر، وكأن المؤلفين كلهم فريق يعملون في موضوع واحد مستقل. وفي أحسن الأحوال يكون التاريخ تاريخاً للمذاهب والتيارات الفكرية ولكنها أيضاً ترد إلى التاريخ العام والأحداث الجارية، وتصبح تاريخاً للفرق أو الجماعات أو الجمعيات مع إغفال تام للأساس النظري الذي تقوم عليه وربطه بالأصول. وفي هذه الحالة لا يُنسب التيار أو المذهب إلى الفرق مثل المعتزلة والشيعة والسُّنة فالمذهب فكرة يتحدد باسمها مثل التأليه والتجسيم والتشبيه والتنزيه في التوحيد أو الجبر والكسب والاختيار في الأفعال. فالصلاح والأصلح واللطف، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، موضوعات مستقلة عند المعتزلة. والطبيعة والكمون والتوليد موضوعات مستقلة عن الجاحظ والنّظّام ومعمر وثمامة وباقي أصحاب الطبائع. والإشراقية والعقلانية موضوعان مستقلان عن الفارابي وابن سينا أولاً، وعن ابن رشد ثانياً. والقول بالرأي والقول بالأثر منهجان مستقلان عن العراق والحجاز. ووحدة الشهود ووحدة الوجود والوحدة المطلقة كلها مستقلة عن ابن الفارض وابن عربي وابن سبعين. ولا يعني ذلك تحريم دراسة المفكرين الإسلاميين. بل يمكن دراستهم ليس باعتبارهم مؤلفين بل باعتبارهم كتاباً، فإذا كان المؤلف هو الذي يضع فكراً بل يخلقه ويبدعه بجهده الشخصي وبصرف النظر عن أي مصدر له خارج جهده العقلي المحض، فالكاتب هو الذي يعرض الفكر ابتداءً من مصدر معين هي النصوص الموحاة. فدراسة المفكر على هذا الأساس ليست دراسة لتاريخ حياته الشخصية: مولده ونشأته، طفولته وصباه، رجولته وكهولته، مرضه ووفاته، علاقاته، آثاره الاجتماعية بل عن طريق إعادة بناء موقفه الفكري الذي يتلخص أساساً في كيفية فهم النص والتعبير عنه إزاء معطيات ثقافية في ظرف معين. فإن تمت إعادة بناء الموقف الفكري للكاتب خاصة إذا كان كاتباً بادئاً مثل الشافعي وعلم الأصول، وأبي حنيفة وعلم أصول الدين، والكندي والفلسفة وليس مضيفاً يمكن بعد ذلك رؤية منهج فكري من خلال هذا الموقف. فإذا تمت إعادة بناء الموقف الفكري للشافعي مثلاً يمكن تلمس جوانب المنهج الأصولي خاصة مناهج الرواية ومن ثم احتمال وجود منهج إسلامي متميز في النقد التاريخي للنصوص. وإذا تمت إعادة بناء الموقف الفكري لمالك مثلاً أو لأبي حنيفة أو لابن حنبل أمكن أيضاً تلمس بعض خصائص فكرية من كل مفكر، وكيف أن كلًا منهم، طبقاً لثقافته وبيئته، قد حاول بيان جانب من جوانب منهج واحد يحاول الكل الوصول إليه والتعبير عنه: الواقع عند مالك، والفكر عند أبي حنيفة، ووحدة الواقع والفكر عند الشافعي ثم اللجوء إلى النصوص الموحى بها باعتبارها المصدر الأول للفكر عند ابن حنبل خشية استبدال الناس الحضارة بالوحي، وترك الأصول وأخذ الفروع. ويمكن إعادة بناء الموقف بصورة كاملة إذا كان للباحث موقف مشابه. فالباحث ليس دارساً مخبراً فقط أو دارساً مجدداً فقط بل هو باحث له أيضاً موقف فكري ابتداءً من النص -وهو موضوع الفكر- في ظروف مشابهة أيضاً. والتشابه يوجد في أن كلاً من الموقفين، القديم للمفكر والجديد للباحث، يتلخص في كيفية حل النص الموحى به للمشاكل الجديدة الموجودة أمامه ويكون السؤال: ما هو الاتجاه الفكري للمفكر أو الباحث ابتداء من النص الموحى به في فهمه له وفي تحليله للعوامل السائدة في موقفه؟ فإذا تشابه الموقفان يمكن للباحث الحالي أن يسقط تحليلاته لموقفه على المفكر القديم مما يساعده على سرعة الفهم ووضوح الرؤية إذ إنه يعيش الموقف من جديد، هذا الموقف الذي عاشه المؤلف القديم. فالمواقف واحدة والاتجاهات منها واحدة إذا تشابهت الظروف وتقاربت الاحتياجات.