في المهاترات والسجالات المنطلقة بين مختلف الفرقاء في المنطقة، سواء كانوا منتمين إلى هذه الطائفة أو تلك، وإلى هذا الدين أو ذاك، وإلى هذه الإثنية أو تلك إلخ، نضع يدنا على خصومات وقتالات وصراعات بينهم، وفي هذه الحال على الباحث في معظم أو في كل العلوم والأنساق العلمية الاجتماعية أن يتصدى لذلك، محولاً إياه إلى موضوع بحث علمي جاد كل الجدية. فلقد راح العاملون في منظومة العلوم والأنساق المذكورة يشعرون بأن التراخي في إنجاز مهماتهم العلمية الراهنة قد يقترب من مستويات غير مسبوقة على صعيد تخصصاتهم العلمية! وحيث يكون الأمر واحتمالاته على ذلك النحو، فإننا نجد أنفسنا أمام دعوة إلى التواضع، بحيث يصبح القول التالي وارداً: «كلنا في الهوا سواء»! أما تسويغ هذا الموقف فينطلق من المعلومة الحاسمة في تاريخ البشر والقائمة على أن الواقع، أي واقع، هو المبتدي في النظر إلى العلاقة بينه وبين الأفكار التي يحملها البشر، وبهذا المعنى فَهم الناس ما تلقوه وفق أفهامهم ومصالحهم، وفي ذلك يستوي الجميع إلا مَن جعل ذلك نشاطاً علمياً له. وهذا من شأنه أن يجعل الناس متساوين في آلية تمثلهم للأفكار والتصورات، ويظهر الاختلاف بينهم في مصالحهم وفي ما تعلموه في العائلة والمدرسة والمجتمع عموماً، مما يؤكد على نفي التبجح بأنهم، دون غيرهم، يملكون من الحقائق المذكور بسبب خصوصياتهم الاستثنائية في بنياتهم الفكرية والأيديولوجية والنفسية والأخلاقية، وكذلك في تميز رغباتهم ومصالحهم وأحلامهم الخاصة وغيرها، ما لا يملكه الآخرون من «العاديين». وهكذا أرى كيف يعود الناس الآن في عصرنا الدامي إلى أفكارهم وعقائدهم وغيرها من موقع أن البشر يصلون إلى ما يعتبرونه حقائقهم، كما يرغبون فيها ويتمنونها أن تكون، مما يوجب القول بأن المرء لا يتصل بأفكاره ومصادرها من حيث هي، بل من حيث هو نفسه، وهذا يعني ضرورة التواضع وعدم الزعم باستفراد الحقائق، وتحديداً منها تلك التي تكتسب طابعاً ما بعدي. وتأتي هذه الملاحظات في سياق ما بثته قناة فضائية عربية، حين أعلنت أن «طائفة تاليت في الهند مرغمة على تنظيف المراحيض باليد، كي تعيش، وآخرون هناك يفرضون ذلك عليهم»! مما يجعلنا نواجه بأسى وبعار كيف تتصرف المصالح بالمبادئ! لقد تصاعد العنف الطائفي والمذهبي، الديني والأيديولوجي، بحيث تحول إلى صيغة ملتهبة من الحروب الجديدة الداخلية والوافدة، وما يتصل بذلك من مصائب وكوارث عارمة! ونلاحظ أن هذا تعاظم ويتعاظم، مُلقياً بمنظومة العقلانية والوسطية والتسامح والحياة المشتركة القائمة على العدل والكرامة والحرية، في سلة المهملات التاريخية، وسنتبين خصائص ذلك وخطره، حين نلاحظ أن مروّجي الأفكار والأفعال الظلامية من المستبدين والجالسين في سُدة نظم فظيعة، يجعلون «الإرهاب الديني»، الذي أسهموا في إنتاجه، سليلاً من عالم أو آخر، وعلى العكس من ذلك يُفصح الأمر عن نفسه، حين ننظر إلى الاستبداد خصوصاً على أنه الوجه الأول من كوارث ما يعيشه العالم الراهن، أما وجهه الثاني فيتمثل في ذلك الإرهاب الطائفي والديني والإثني وغيره. لم تعد سوريا الجريحة قادرة على الصبر، فكل شيء فيها يستباح ويُحول إلى هشيم، إن عصراً جديداً يهل علينا مطالباً أن نكون بمستوى ما هو قائم. -------------- أستاذ الفلسفة - جامعة دمشق