الاتحاد الأوروبي هو عبارة عن مشروع فكري وحدوي اختمر في أذهان وكتابات مفكرين وحكماء وفقهاء قانون مبرزين وفلاسفة، قبل أن يصبح حقيقة ومشروعاً سياسياً حقيقياً بمؤسسات قوية تجمع رؤساء دول ووزراء حكومات وخبراء وبرلمانيي أمم، وعلى رغم تباين دوله من حيث درجة التقدم الاقتصادي والمالي والفلسفة السياسية والاجتماعية السائدة، فقد استطاعت مجتمعة، من خلال حكمة بعض من أعضائها والمبادئ الوحدوية السامية، من إصدار عملة أوروبية موحدة حلت محل العملات الوطنية، وساهمت في إقامة تدريجية لوحدة اقتصادية حقيقية، وتحويل أسواق الدول المشتركة في حركة التكامل والاندماج الأوروبي إلى سوق داخلية واحدة. وقد تمكن الاتحاد الأوروبي من تحقيق هذه المنجزات وغيرها بفضل عوامل الثقة السائدة، وبفضل عوامل سياسية (على الدولة المترشحة للعضوية أن تتمتع بمؤسسات مستقلة تضمن الديمقراطية ودولة القانون، وأن تحترم حقوق الإنسان وحقوق الأقليات) وعوامل اقتصادية (وجود نظام اقتصادي فعال يعتمد على اقتصاد السوق، وقادر على التعامل مع المنافسة الموجودة ضمن الاتحاد) وعوامل تشريعية (على الدولة المترشحة للعضوية أن تقوم بتعديل تشريعاتها وقوانينها بما يتناسب مع التشريعات والقوانين الأوروبية التي تم وضعها وتبنيها منذ تأسيس الاتحاد)، مما جعل من الاتحاد الأوروبي نظاماً سياسياً وقانونياً له طابع خاص. ولكن المشهد اليوناني الراهن وأزمة ديونه الخانقة التي فاقت 323 مليار يورو (جلها قروض من البنك المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي) بدأ يثير مخاوف منظري الاتحاد الأوروبي، وفي الذهن هنا كيفية بداية أزمة الديون وتضخمها (جاءت هذه الديون نتيجة لجوء اليونان إلى الاقتراض من دون حساب في بداية الألفية الثانية، بعد انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي جعل التسهيلات الائتمانية أسهل بكثير، وشجع اليونان والدول الصغيرة بمنطقة اليورو على الاقتراض، تارة لسداد العجز في الموازنة وتارة أخرى لسداد دفعات مستحقة للقرض الأول، حتى تراكمت عليها الديون نتيجة كثرة القروض وفوائدها)، وتأثيراتها على الحياة اليومية لليونانيين، وطريقة اختيار منتخبيهم (انتصار «تسيبراس» سواء في الانتخابات العامة في يناير الماضي أو في الاستفتاء الذي دعا إليه وطلب الشعب بالتصويت بـ«لا» على طريقة التعامل الأوروبي مع أزمة الديون اليونانية)، وكل هذه الأمور تشكل مجتمعة لحظة فارقة في التاريخ السياسي والاقتصادي للاتحاد الأوروبي بل والاقتصاد العالمي، وهو ما جعل العديد من الخبراء يدعون إلى مراجعة الأدوات الاقتصادية التي هيمنت طويلاً على تسيير وتدبير شؤون الاتحاد. وقد رفض اليونانيون في استفتاء شعبي شروط الدائنين بفرض المزيد من إجراءات التقشف القاسية مقابل تقديم قروض جديدة لليونان، مما يطرح سؤالًا حساساً عن المخاوف المترتبة على هذا الرفض في أعين الاستراتيجيين حراس الاتحاد الأوروبي. وتلك المخاوف تكمن في أن الديمقراطية الأوروبية ستكون في خطر إذا قام هذا الاتحاد بازدراء نتيجة الاستفتاء في اليونان، والاتحاد الأوروبي قام أساساً على مسألة الديمقراطية السياسية الشعبية واحترام حقوق المنتخِبين، كما أن اليونان هي البلد صاحب الحضارة العريقة التي تشكل أهم القواعد الثقافية والتاريخية للغرب. وفي هذه الأزمة هناك المعطى المالي- المصرفي، ?وهناك ?المعطى ?السياسي- الاستراتيجي ?في ?تفسير ?مستقبل ?أزمة ?اليونان، ?بل و?مستقبل ?الاتحاد ?الأوروبي ?بأسره. ?والبنك ?المركزي الأوروبي ?وصندوق ?النقد ?الدولي كل منهما ?مؤسسات ?مالية ?محكومة ?بقواعد ?مالية ?دقيقة تقضي بأن: ?على ?اليونان ?كما ?على ?باقي ?الدول ?المدينة ?أن ?ترد ?الأموال ?والأرباح ?في ?الآجال ?المحددة. في حين أن ?بعض ?أعضاء ?المنظومة ?الأوروبية ?النافذين ?كألمانيا ?وفرنسا ?فينظرون إلى الأمر بمنظور ?استراتيجي ?ويخشون ?على ?مستقبل ?الوحدة ?وعلى ?المجهود ?التاريخي ?الذي ?بذل ?للوصول ?بالاتحاد ?إلى ?هذه ?المرحلة.... وخروج اليونان من منطقة اليورو، أو من الاتحاد الأوروبي، قد يحدث زلزالاً استراتيجياً لا يمكن أن يتصوره مديرو المؤسسات المصرفية الأوروبية والعالمية المقرضة... وقد تقع دول في المستقبل القريب في هذا الفخ نفسه كالبرتغال مثلًا (وتداعيات الأزمة المالية العالمية لسنة 2008 على دول كإيطاليا وإسبانيا ليست ببعيدة)، ولا ننسى أن النزعة الشعبية الرافضة لإملاءات المؤسسات الدولية والإقليمية داخل بعض التوجهات الحزبية قد تتقوّى في أعرق الديمقراطيات وعلى رأس ذلك اليسار المتشدد المعارض لليبرالية، مما ستكون له تبعات خطيرة على المسار السياسي من انتخابات تشريعية ومحلية وأوروبية. ولا ننسى أيضاً أن قيمة اليورو قد تنخفض كما أن البنوك الدائنة لليونان قد تخسر المليارات من الدولارات إن عجزت أثينا على تسديد ديونها. والحال أن الاستفتاء الشعبي كان عملية ذكية من «تسيبراس» جعلت الاتحاد الأوروبي بين سندان الشرعية الشعبية لدوله ومطرقة قواعد عالم المال والاقتصاد التي لا ترحم، ووحدها الأيام ستنبئ من الفائز! ------------- أكاديمي مغربي