هزت نتائج الاستفتاء اليوناني الأخير الشارع الأوروبي أثر نجاح رئيس الوزراء «ألكسيس تسيبراس» في الحصول على أغلبية واسعة داعمة لاستراتيجيته الرافضة لسياسات التقشف المفروضة على بلاده من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. وفي الوقت الذي تتزايد احتمالات خروج اليونان من المجموعة النقدية الأوروبية، لا يبدو أن حالة صعود «اليسار» الراديكالي في اليونان حالة فريدة، بل تعبر عن تحولات نوعية في الحقل السياسي الأوروبي من علامتها الواضحة تسارع صعود الحزب الراديكالي الإسباني «بوديموس» الذي تحول في سنة واحدة إلى التشكيلة الأولى في الساحة الإسبانية. ما هو «اليسار» الجديد في أوروبا؟ وماهي أطروحاته النظرية ومشروعه الأيديولوجي؟ وهل سيكون له تأثير حاسم على طبيعة الأوضاع في بلدان القارة العجوز؟ من الصعب الإجابة على هذه الأسئلة، فالأمر يتعلق بظاهرة جديدة لا تتوفر حولها أدبيات غزيرة، ولم تنل بعد الاهتمام المستحق في الإعلام السيار. ولاستكناه المعادلة الجديدة، يتعين التنبيه إلى الفروق الرئيسية بين «اليسار الجديد» و«اليسار التقليدي» المتمحور حول الأيديولوجيا الماركسية في نسختها المألوفة، كما لا بد من التمييز بينه والأحزاب الاشتراكية التي تشكل مكوناً تقليدياً من مكونات الحقل السياسي. «اليسار» الراديكالي هو حصيلة أزمتين كبيرتين مرت بهما بلدان أوروبا في السنوات الأخيرة: أزمة مجتمعية داخلية متولدة عن تغير تركيبة النسيج الوطني أفضت إلى مأزق هوية حاد استفادت منه التنظيمات الشعبوية في نسختيها «اليمينية» المتطرفة والتشكيلات «اليسارية» الراديكالية، وأزمة اقتصادية واجتماعية متولدة عن إخفاق السياسات النقدية والمالية التي اعتمدها الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمة المالية العالمية. وإذا كانت التيارات اليمينية المتطرفة حققت مكاسب انتخابية متزايدة في شمال ووسط أوروبا في الآونة الأخيرة، فإن «اليسار» الراديكالي هو الذي استفاد من آثار الأزمة الأوروبية في بلدان جنوب القارة التي شهدت في السنوات الخمس الماضية قيام حركات احتجاجية نشطة هي الأرضيّة التي خرجت منها التنظيمات اليسارية الجديدة. التيار الرديكالي الجديد وإنْ كان يستخدم في بعض شعاراته ومفاهيمه معجماً ماركسياً ثورياً، إلا أنه يستمد مصطلحاته ومقولاته النظرية من الأدبيات الفلسفية والاجتماعية التي أفرزتها حركة العولمة البديلة واتجاهات ما بعد الكولونيالية. الأمر هنا يتعلق بأدبيات نشأت في الحقل النظري اللاتيني الأميركي وارتبطت بديناميكية «اليسار» البوليفاري الذي وصل لسدة الحكم في عدة بلدان من أميركا الجنوبية في العقد الأخير عن طريق الانتخابات الديمقراطية، كما أنه يمتاح الكثير من أدواته الفكرية من أعمال المدرسة الماركسية الإيطالية الجديدة (توني نغري)، التي أعادت الاعتبار لمفهوم الجمهور في مقابل الطبقة العاملة، وللإمبراطورية في مقابل الدولة الوطنية الاشتراكية. في هذا السياق نشير إلى أعمال مؤسس حزب «بوديموس» الإسباني «بابلو أغليسياس»، أستاذ العلوم السياسية الشاب (35 سنة)، الذي أنشأ مع بعض زملائه من أساتذة علم الاجتماع والسياسة وبعض رموز الحركة الاحتجاجية من المتأثرين بالثورة البوليفارية هذا الحزب الصاعد. أعمال «أغليسياس» تتمحور حول أنماط الفعل الجماعية في عصر ما بعد الدولة الوطنية، بالتفكير في البدائل العملية عن التنظيمات الحزبية الكلاسيكية وأشكال النضال التقليدي من منطلق تهيمن عليه أدبيات «نغري» والماركسية الفلسفية الجديدة. خطاب «اليسار الجديد» يتسم بنزعة نقدية صارمة تجاه العولمة المالية وغطائها الأميركي والنظر إليها تهديداً يقضي على إمكانات الحرية السياسية والسيادة الشعبية، ما يترجمه كتاب وزير المالية اليوناني المستقيل «انيس فاركافيس» وهو اقتصادي بارز يعتبر العقل المفكر لحزب «سيريزا»، وقد اشتهر بكتابه «المينوتور الكوني»، الذي يذهب فيه إلى تشبيه الولايات المتحدة من حيث تحكمها بالاقتصاد العالمي بالإله اليوناني «مونيتور»، الذي هو نصف إله ونصف ثور تُقدم له سنوياً قرابين بشرية حتى لا يدمر قصر الملك «مينوس». ما يذهب إليه «فاركافيس»، هو أن الاقتصاد العالمي المعاصر يتم تسييره وفق العجز الأميركي بحيث يغذي الفائض العالمي احتياجاته، ويقع بالتالي تدويره في عجلة الاقتصاد الأميركي، وتتخذ البلدان الأخرى قرباناً لهذه الهيمنة، التي يعتبر أنها أصبحت مستحيلة مع انهيار آليات ضبط النظام المالي الذي يديره المركز الأميركي. «فاركافيس» الذي درس طويلاً في الجامعات الأميركية ليس بالثائر الحالم، بل يدرك حدود التغيير الذي حدث في بلاده، وهو القائل: «ليس لنا من القوة ما يؤهلنا لتغيير العالم، لكن باستطاعتنا أن نفرض على أوروبا أن تتغير».