منذ الفترة المبكرة للإسلام ومن حين بدأت الانشقاقات الفكرية والكلامية سعى الخلفاء لتوظيف علماء دين كبار لمناقشة الخوارج عسى أن يتراجعوا عن ضلالاتهم، وكانت هذه المناظرات أحياناً تأتي بنتائج جيدة، وأحياناً متواضعة، وتمنى في أحايين أخرى بالفشل. وإذا استرجعنا أسباب الهدوء الذي كان الخوارج يتسمون به في فترة عمر بن عبدالعزيز، فهي ليست كما يتوهم بعض الفقهاء والمؤرخين وأهل الحديث، لأنهم رأوا فيه خليفة صالحاً، زاهداً ولهذا خف نشاطهم، بل لأسباب أخرى، منها أن دولة الإسلام قد استقرت، وأصبحت ضاربة الجذور. ومنها التوسع الكبير والهائل الذي جعل منها أعظم إمبراطورية وقتها، وأن العنفوان والطاقات الشبابية أصبحت تجد تفريغها عبر قنوات كثيرة شأن كل حضارة صاعدة مزدهرة، ولأمر مهم وهو الوفرة والرفاه والثروات الهائلة التي تفجرت، أي أنه يمكننا أن نقول بلسان أهل عصرنا كان الحل في التنمية الشاملة، وهذه التنمية كانت لها تجليات كبرى في مجال التعليم وفي الأفكار والفلسفات، حيث تولد من الخوارج القدامى تيارات ومدارس أصبحت تميل أكثر نحو السلم، والاكتفاء بالعراك على مستوى الأفكار والمناظرات، أي أن الرعيل الأول الذين كانوا يؤمنون بالعنف المسلح والسيف ضد الأمراء والملوك، كانوا في لحظة تلاشٍ وذبول. كان الإسلام يواجه انشقاقات فكرية ومذهبية نابعة من دوافع سياسية وأخرى مرتبطة بالمظالم والتهميش، وقليل منها في عصر الخلفاء ما كان الدافع إليه أسباباً عرقية وشعوبية، كما كان الحال عليه لاحقاً في نهاية العهد الأموي وبدايات العصر العباسي. والذي أعنيه أن عقوداً من التحولات التي كان يعيشها المسلمون أحدثت تأثيرها الكبير في الغالية (الخوارج)، وحين بدأ منظرو هذه الحركات والجماعات بالتفلسف نتيجة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي انعكست على الفكر، بدأوا بالتخلي تدريجياً عن العدمية الفوضوية، نحو التعقيد. وثمة مسألة جديرة بالإشارة، وهي أن بعض الفقهاء الكبار والمفسرين والصالحين في العهد الأول قد انجرّوا وراء هؤلاء الشباب الثوار الذين كانوا يؤمنون بالسيف والخروج على الولاة، وكانت بعض حججهم مقنعة لهؤلاء الشيوخ، ولهذا انساق معهم بعض من عُرفوا برجاحة العقل، واكتشفوا ورطتهم بعد فوات الأوان. وهذه الانتكاسات أحدثت تأثيرها على فقهاء المذاهب في الموقف من جور الولاة، فبعد أن كان القول بالخروج بالسيف على الظلمة هو رأي جمهورهم، أصبح يشار إليه في مدونات الفقه في القرن الرابع، بأنه قول قديم. جيلًا بعد جيل انغمس ورثة الأفكار الغالية أكثر في متع الحضارة وبهجة المدنية التي كانت تحيط بهم من كل جانب، بما فيها الاطلاع على الإرث الفلسفي للأمم التي دخلت الإسلام، (لنتذكر أن الخوارج الأوائل كانوا أعراباً وبعض الشعوبيين والمهمشين)، ويا للدهشة فإنهم بعد فترة أصبحوا يمثلون النواة الأولى لنشأة الفكر الفلسفي في الإسلام، وهذا نتجت عنه ظاهرتان، أولاهما أن بعض افكارهم البدائية الساذجة التي لم تلق أي رواج في حواضر الإسلام الكبرى اندفعت رغماً عنها إلى الأماكن القصية والبعيدة عن يد السلطة وقوتها، في أقاصي جزيرة العرب وشمال أفريقيا، وبعض منهم انسجم مع المدارس الفقهية المعترف بها، وقليل منهم وجد قبولًا بين البربر. والظاهرة الثانية أن بعضاً من أذكياء هذه التيارات الذين عُنوا بالتفلسف أصبحوا ندماء وأصدقاء للملوك والأمراء، أي أن نزعتهم الدموية في طور تشكلهم الأول قد تلاشت، بعد أجيال من التحول. الفرق بين عصرنا وعصر الخوارج الأوائل، أن غاليّة اليوم يجدون دعمهم عبر دول لها مصالحها في نموهم، كما أن انتشارهم عبر وسائل تواصل لا يمكن السيطرة عليها إلا بمنعها أساساً، والأهم أن المناظرات والمساجلات معهم لن تجدِ نفعاً، وعسى ألا تطول هذه المحنة.