أثيرت في الأسابيع الأخيرة مجدداً قضية الأقليات الإثنية وجرت مقارنة الأخطار التي تتعرض لها بالأخطار التي تواجهها الأقليات الدينية. وذلك في حالات مثل الأويغور بإقليم سينكيانغ الصيني. فقد وصل مئاتٌ منهم إلى تركيا ودول أُخرى على الحدود مع الصين باعتبار أنّ الإدارة الصينية لا تسمح لهم بالصوم وقراءة القرآن أي تضطهدهم في دينهم. ومثل الروهينجا وهم أقليةٌ مسملةٌ في بورما تتعرض للقتل والتهجير منذ سنوات. وفي إقليم التبت الخاضع للصين أيضاً تعيش أقليةٌ إثنيةٌ ودينيةٌ في الوقت نفسه ضمن الديانة البوذية. وقد اعتاد زعيمها في المنفى الدالاي لاما التذكير بالقمع الصيني لبني قومه. إنما الطريف أنّ مئات تظاهروا ضد احتفاليات الدالاي لاما، ليس لأنهم موالون للصين، بل لأنهم لا يعترفون بالمرجعية في طائفتهم للدالاي لاما الذي يقدّسه السياسيون والمثقفيون الغربيون، تارةً للتشهير بالصين، وتارة للإعجاب بشخصيته المؤثرة. أي الاضطرابين هو الأكثر خطورةً على أمن العالم وعلى حقوق الإنسان؟ قبل أربع سنواتٍ تجادل أنثروبولوجيون واستراتيجيون أميركيون في المسألة في عددين متواليين من أعداد مجلة «فورين أفيرز» الشهيرة، ورجَّح بعضهم كفة الصراعات الإثنية، باعتبارها الأكثر عدداً واستمراراً (228 نزاعاً لأسباب إثنية بعد الحرب الثانية). بيد أنّ الظاهر الآن في العالم العربي تقدُّمُ الاضطراب الديني، واضطهاد الاقليات الدينية. لكنْ إلى جانب الصراعات الدينية البارزة (داخل الإسلام السني، وبين الشيعة والسنة) يبقى الأبرز في المنطقة التمايُزُ والتنازُع على الإثنية الكردية بالعراق وسوريا وتركيا وإيران، وإرادتها التحول إلى قومية ذات دولة. والظاهر أنّ الأصل في التمايز والاضطراب وتطلُّب الكيان المستقلّ هو العامل الإثني الذي يكتمل باللغة، وقد يزيده العامل الديني توهُّجاً في أزمنة الأزمات، كما في حالتي البولنديين والشيشان، وفي حالة باكستان من قبل. على أن العامل الديني لا يكون داعماً دائماً للتمايز القومي، وبخاصة إذا كان دين الإثنية لا يختلف عن دين أو أديان جوارها الأكثري القريب والمُخاصم. لماذا تميل الأقليات الإثنية إلى إقامة كيان خاص بها؟ بدأت هذه الميول في زمن لا يزيد على القرنين. فالإمبراطوريات في الغرب والشرق ومنذ القديم متعددة الإثنيات والديانات والأقوام. ومع أن فيها دائماً عصبية غالبة في القومية والدين، فإن النظام الإمبراطوري تسمح تعدديته بالحراك الرحب، والاحتفاظ بالخصائص القومية دونما اعتراض كبير من العصبية الغالبة أو الأكثرية. إنما نتيجة انقسام الدين المسيحي وانكفائه عن المجال العام، وميل النُخَب المحلية السياسية والاقتصادية للاستقلالية، بدأت الدولة القومية بالظهور. وحتى الكيانات القائمة مثل بريطانيا وفرنسا بدأت تتحول إلى دولٍ قومية، في حين بدأت باقي الدول الأوروبية بالتشكل على مثالها مثل ألمانيا وإيطاليا. صار ينبغي أن تسود في الدولة قومية واحدة ولغة رسمية واحدة، وظهر وعي تربَّى على أساطير الأصل التاريخي الواحد واللغة الواحدة وأحياناً الدين الواحد. لقد ظهرت فكرة وممارسة «الدولة الأمة». وفي ظل الاستعمار الأوروبي للعالم عمدت أوروبا إلى محاولة تشكيل العالم على مثالها، وكأنما هو مثال خالد، مع أن عمره لا يتجاوز الثلث الأخير من القرن الثامن عشر، وما بدأ العمل عليه بوعي إلاّ بعد الثورة الفرنسية عام 1789. وكان جديداً وهائلاً ما أعلنه الرئيس الأميركي وودرو ويلسون على مشارف تشكيل عصبة الأمم بعد الحرب الأولى عن «حق الشعوب في تقرير مصيرها»، أي إقامة دُوَلها المستقلة. فتنطح لذلك الترك والعرب والأرمن والأكراد واليهود. فكل مجموعة مهما بلغ حجمها بدأت تفكر بذاتها كوحدة تستحق دولة لأنها تجمع إلى الإثنية واللغة الموقع الجغرافي، ووعي النخبة الطامحة. وما توافر لدى الصهاينة غير الوعي، دون اللغةٍ والموطن. ومع ذلك سعوا ونجحوا في إقامة دولتهم على أرض غيرهم! إنّ نموذج الدولة القومية ذات الشعب الواحد المنفرد نموذج ضيق وقد أثار حربين عالميتين، بسبب صراع القوميات الأوروبية على المصالح الاستعمارية. بيد أن منطقتنا العربية لا تعاني منه فقط؛ بل تعاني أيضاً من إحيائية دينية، تريد جمع المسلمين على أساس الدين الواحد، وبالقوة. ويبدو البعد المحلي أو الإثني أو الثقافي غائباً لدى الأصوليين. لكن الواقع أن الانقسام بين «داعش» و«النصرة» لا علة له غير التمايز العراقي/ السوري، حصل ذلك أيام البعثيين، ويحصل الآن أيام الإسلاميين! ------------------- *أستاذ الدراسات الدراسات الإسلامية بالجامعة اللبنانية- بيروت