كلمة تراث تصب جميعها في نبع الهوية، ولا يُمكن لمجتمع أن يعرف حاضره ويتلمّس طريق مستقبله دون أن يعرف ماضيه، وهذا ينطبق على كل بلدان العالم، لذا نجد الدول المتحضرة تحرص على إحياء تراثها لتُحافظ على هويتها. أنا فخورة بأنني ابنة جدّة، وسعيدة أن مدينتي موجودة ضمن قائمة التراث العالمي حسب تصنيف اليونسكو، وهو ما دفع الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني، إلى إقامة مهرجان جدّة التاريخيّة بمنطقة جدة القديمة للعام الثاني على التوالي مرتين على مدار العام. وقد حمل هذه السنة اسم «رمضاننا كدا وعيدنا كدا» واستمراره لأيام العيد الأربعة. وقد دخلت مؤخراً سفرة إفطار المهرجان موسوعة (جينيس) للأرقام القياسيّة لنجاحها في تنظيم أطول سفرة إفطار متصلة في العالم. هناك مجهودات كثيرة كانت واضحة للجميع، وقد لفت نظري عند زيارتي للمهرجان في واحدة من الأمسيات الرمضانيّة، استقبال الصبية للزوّار، بالزي الحجازي القديم المتمثّل في لبس عمامة الرأس، والصديريّة فوق الثوب. لاحظت أن هناك ألفة في أرجاء المكان، والأجواء احتفاليّة، وهناك اختلاط بين الأسر دون أن أسمع كلمة نابية أو ألمح نظرة وقحة من أحد، والأهم اختفاء رجال الهيئة مما أدّى إلى عدم تعكير هذا المناخ الاجتماعي الجميل الذي يمتاز به أهالي مدينة جدة. كان صوت «الجسيس» يعلو في أرجاء المكان، وهي فرق تُغني أغاني إنشاديّة و«فلكلوريّة» وترقص بالعصا والمزمار، يمتاز بها أهالي الحجاز ولم تندثر لحد اليوم حيث يتوارثها الأجداد عن آبائهم الذين توارثوها هم كذلك عن أسلافهم، وقد تمنيتُ لو كان هناك موقع مخصص لهم بالمهرجان لتعريف الأجيال الصاعدة بهذا النوع من الفن الحجازي العريق. ومن ضمن الأشياء التي افتقدتها عدم وجود ركن لبيع التذكارات الصغيرة الخاصة بمعالم مدينة جدة كبّوابة جدّة التاريخيّة التي تم هدمها للأسف، وتذكارات أخرى كصور المباني القديمة التي كانت تحكي عن تاريخ جدة، أو مجسمات صغيرة للسقّا الذي كان يدور على بيوت الأهالي لإمدادهم بالماء، أو مجسّم عن منارة جدّة، وأشياء أخرى كثيرة لم أجدها! للأسف لقد أهتم القائمون على المهرجان بعرض نوعيّة الطعام الحجازي المتمثل في «بصطات» الفول والبليلة واللحم المشوي وغيرها من الأكلات الشعبيّة على حساب عرض صور التراث الاجتماعي الذي يُميّز مدينة جدة، حتّى أنني تخيّلتُ نفسي أسيرة وسط مهرجان للأطعمة! تمنيّتُ لو أهتمت هيئة التراث بترميم المباني القديمة التي أصبحت آيلة للسقوط لحماية تراثنا العمراني. تمنيتُ عمل ركن للحكواتي، واختيار شخص متخصص لسرد حكايات عن مجتمع جدّة القديم ليتعرّف الصغار على ماضيهم. لقد كنتُ محظوظة برجل مثل أبي. كان يقص علينا حكايات مستفيضة عن مجتمع جدّة القديمة. كان يصحبني أنا وأخوتي في شهر رمضان لوسط البلد، ليرينا بيت الأسرة الكبير الذي وُلد وتربّى فيه، ويأخذنا لشارع قابل الشهير لشراء حاجات رمضان والفرجة على مباهج رمضان والعيد فيه. كل هذا حُرمت منه الأجيال الجديدة نتيجة لواقع العصر الحديث الذي سلب من مجتمعاتنا معانٍ روحانيّة رائعة غابت عنها إلى الأبد! هذه الملاحظات لا يعني البخس بإنجازات المهرجان، وقد كان أهمها من وجهة نظري، إقامة الصالون الثقافي الأول بـ"بيت باعشن" التاريخي، الذي أشرف على إعداد الصالون ومحاورة الضيوف الكاتب المتميّز (ثامر شاكر) حيث حرص على اختيار نخبة من الأدباء والكتّاب الشباب، مما يؤكّد على أن الشباب الجدّاوي حريص على إحياء تراثه وعمل حلقة صلة بينه وبين جيل الآباء من جهة، وجيل البراعم الصغيرة من جهة أخرى. هنيئاً لجدّة وأهلها بمهرجانها الحجازي العريق. كاتبة سعودية