كل الأمم تخطط لمستقبلها وتضع برامج مستقبلية، وتطلق مشاريعها ورؤيتها إلى مدى قرن أو نصف قرن، عدا الأمة العربية التي دخلت في متاهات كبرى وباتت تتصرف بردود الأفعال دون أن تملك رؤية مستقبلية تحدد معالم مسيرتها وأهدافها المرحلية والاستراتيجية. وفي منطقتنا ثلاث أمم كبرى صاغت الجفرافيا علاقاتها بعضها ببعض، وهي العرب و الفرس والأتراك، وقد صنعت هذه الأمم تاريخ هذه المنطقة من قبل ظهور الإسلام، وكانت العلاقة العربية الفارسية تتراوح بين العداء المرير إلى حد الحروب وبين التبعية المتبادلة. ولكن علاقات الشعوب لم تكن شديدة التأثر في النتائج، لأن ما يجمعها كان أمتن وأعمق من أن تفتته تداعيات الحروب، وكان الرابط الأعمق هو الإسلام الجامع والمصالح المشتركة، والجوار الذي شكل نسيجاً اجتماعياً عابراً للحدود. وأما مسيرة العرب والترك فلم تشهد حروباً مدمرة وإنما شهدت تبعية شبه طوعية حيناً ومضطربة حيناً آخر، فحين سقطت راية العروبة بعد سقوط الدولة العباسية وحكم الأمة المماليك لم يستطع العرب استعادة الراية حتى انتزعها الأتراك من المماليك، وقد رضخ العرب للدولة العثمانية أربعة قرون. ولم تستطع الثورة العربية الكبرى مطلع القرن العشرين أن تحقق مشروعاً عربياً فقد اختطفتها مشاريع الدول الأوروبية ووقعت الأمة بيد الأوروبيين الذين زرعوا إسرائيل في قلب الأمة، وبعد أن خرجوا من الأبواب عند الاستقلال دخلوا من النوافذ وفرضوا على بعض الدول العربية زعماء مستبدين يضمنون أمن إسرائيل ويوفرون لها الحماية عملياً مع السماح لهم برفع شعارات المقاومة والعداء لإسرائيل أمام شعوبهم! كان من حسن حظ الفرس والأتراك أنهم لم يتعرضوا للتمزق العربي والتشتت إلى دول عديدة كما حدث للعرب الذين حلموا بأن يتوحدوا وأن تكون لهم دولة واحدة تضم ولاياتهم ولو بشكل فيدرالي، ولم تنجح محاولاتهم لأنها لم تكن صادقة، والوحدة العربية الوحيدة التي نجحت هي وحدة دولة الإمارات العربية المتحدة التي وجدت استجابة صادقة من حكامها. وقد انهارت أحلام الوحدة وبات العرب يحلمون بالحد الأدنى من التضامن ولا يستطيعون تحقيقه، وقد دخلت الأمة في سنوات التيه بعد أن تحول «الربيع العربي» إلى شتاء عاصف تمطر فيه القذائف والصواريخ والبراميل المتفجرة حمم الموت فتدمر البشر والحجر. وقد وجد العرب أنفسهم بلا أي غطاء فكري أو ثقافي أو سياسي أو عسكري، وباتوا مهددين بفقدان مكانتهم الحضارية في العالم، وقد اختطفت من أيديهم راية الإسلام الذي أسس لهم تلك المكانة عبر التاريخ، وصار سيفاً عليهم تلوح به يد الإرهاب التي تقطر منها الدماء. وكان الإيرانيون انتقلوا إلى مرحلة تصدير ثورتهم وتوغلوا في العراق وسوريا ولبنان، ولم يخفوا ما يكنونه من تطلعات توسعية منذ أن ألغوا كل ما كان من تاريخ الشاه المخلوع فلم يبقوا منه غير احتلاله للجزر الإماراتية الثلاث، ثم بدأت تطلعاتهم إلى اليمن ليطوقوا بلاد الشام والجزيرة العربية. وكان المشروع الإيراني يخطط لامتلاك النووي الذي باتت الدول الكبرى تتعامل معه بسياسة الاحتواء على حساب العرب الذين باتوا أضعف من أن يحسب لهم حساب! وأما الأتراك فقد تمكنوا من تحقيق مشروع تنموي كبير، وكانوا يتطلعون إلى دخول الاتحاد الأوروبي، فلما لم يجدوا ترحيباً تطلعوا إلى المنطقة العربية وكانت سوريا هي المعبر، ولكن ما حدث في سوريا جعل المشروع التركي ينكفئ خارجياً، ويدخل في مرحلة التلكؤ والترقب. وكان الإسرائيليون قد استفادوا من كل الظروف المحيطة ومن الدعم الدولي غير المحدود لتحقيق مشروعهم الاستيطاني التوسعي، وهم يمضون فيه دون عوائق تذكر، وقد جاءت تداعيات «الربيع العربي» لتوفر لهم مزيداً من الطمأنينة بعد أن غرق العرب في صراعاتهم الداخلية بعد الثورات، وقد صار الصراع العربي الإسرائيلي ثانوياً ولم تعد القضية الفلسطينية قضية العرب المركزية، فقد صارت القضية الكبرى اليوم هي محاربة الإرهاب. ويبدو أن العرب وحدهم بين هذه الأمم المجاورة لا يمتلكون مشروعاً عربياً واضح الأهداف والمعالم، وقادراً على مواجهة محنة الأمة الراهنة، وتوشك جامعتهم العربية أن تغيب عن المشهد الدولي، ولولا تماسك مجلس التعاون الخليجي لما بقي للعرب كيان موحد، وإن لم ينتقل العرب من ردة الفعل إلى الفعل فسيكون المستقبل العربي بيد الآخرين.