أثار عالم بريطاني عاصفة من الجدل بداية الأسبوع الماضي، عندما نصح الرجال البريطانيين، في مقال تحريري مفصل في إحدى الدوريات العلمية، بتخزين حيواناتهم المنوية في أماكن تبريد متخصصة، عند بلوغهم سن الثامنة عشرة، لغرض استخدامها لاحقاً في المراحل المتقدمة والمتأخرة من العمر. وأطلق هذا العالم البريطاني المتخصص فيما يعرف بالأخلاقايات الطبية أو البيولوجية نصيحته تلك، بسبب التزايد المستمر في أعمار الآباء البريطانيين، وعلى خلفية المعرفة الطبية بأن كبر عمر الأبوين، أحدهما أو كلاهما، يحمل معه مخاطر وتبعات صحية على أطفالهم. هذا التزايد المستمر في أعمار الآباء البريطانيون - ومثلهم العديد من شعوب العالم الأخرى- أظهرته الدراسات والإحصائيات الحديثة، ففي خلال عقدين فقط من الزمن، ارتفع متوسط عمر الرجل البريطاني عند حمل الزوجة، من 31 سنة في 1993 إلى 33 سنة عام 2013، كما ازداد عمر الأمهات من 28 إلى 30 سنة خلال الفترة نفسها. ومما زاد الطين بلة، أن الفئة العمرية بين 30- 34 سنة، في الذكور والإناث، كانت هي الأعلى خصوبة والأكثر إنجاباً، وهو ما يعني أن الغالبية من الأطفال البريطانيين أصبحوا يولدون لأبوين في الثلاثينات من العمر، وذلك مقارنة بوقت ليس بالبعيد، عندما كان غالبية الأطفال يولدون لأبوين في بداية أو منتصف العشرينيات. وعلى الرغم من أن جُلّ هذه الإحصائيات يُعنى بالآباء والأمهات البريطانيين، إلا أنها ليست بعيدة عن الواقع في الكثير من دول المنطقة، التي أدت الأوضاع الاقتصادية فيها إلى ارتفاع سن الزواج لما بعد منتصف الثلاثينيات من العمر، ونهاية الأربعينيات في أحوال كثيرة. تأثير الأوضاع الاقتصادية عامة، بالإضافة إلى الأهداف الوظيفية والطموحات المهنية، أثبتته أيضاً الدراسات والإحصائيات سابقة الذكر، التي أظهرت أن الزوجين الذين يعملان في وظائف متوسطة وروتينية، كان متوسط العمر الأم عند الإنجاب أقل من 30 عاماً، بينما ارتفع متوسط عمر الأم عند الإنجاب في حالات الزوجين الذين يعملان في وظائف قيادية أو متخصصة لأكثر من ثلاثين عاماً. ويمكن رد هذه النصيحة غير الاعتيادية للعالم البريطاني، إلى الحقيقة الطبية المعروفة بأن كبر عمر الأب يرتبط بمعدلات أعلى للمشاكل الصحية التي تطال الأبناء، مثل التوحد، والشيزوفرينيا. ورغم أن هذه الزيادة على المستوى الفردي أو الشخصي، تعتبر طفيفة جداً، إلا أنه إذا وضعناها في منظور المجتمع وإجمالي عدد الأطفال، فساعتها يمكن أن ندرك أن تبعات كبر عمر الأب، هي في حقيقة قضية صحة عامة. وبخلاف المشاكل الصحية للأطفال، يحمل تقدم الأب في العمر معضلة أخرى على صعيد مستوى الخصوبة. فعلى الرغم من أنه على عكس النساء، لا يمر الرجال بسن اليأس، التي تيأس فيها المرأة من الحمل وتفقد أملها في الإنجاب، إلا أن خصوبة الرجال تنخفض أيضاً بالتقدم في العمر، حيث تُظهر الدراسات التي تقارن بين من هم دون سن الثلاثين من الرجال، ومن هم فوق سن الخمسين، حدوث انخفاض في الخصوبة بمقدار يتراوح ما بين 23% إلى 38%، وإن كانت هناك حالات موثقة لرجال أنجبوا وهم في العقد التاسع من عمرهم. ويعتبر انخفاض الخصوبة وتراجع معدلات الإنجاب من المشاكل التي تهدد وجود العديد من شعوب ومجتمعات العالم حالياً. فمن المعروف في مجال الدراسات السكانية، أنه كي يظل عدد السكان في مجتمع ما ثابتاً دون تغيير خلال السنوات والعقود القادمة، لابد أن يتساوى معدل الإنجاب - على الأقل - مع مستوى معدل الإحلال، وهو الحد الأدنى من عدد الأطفال الذي ينبغي أن تنجبه كل امرأة خلال حياتها للحفاظ على عدد السكان ثابتاً. هذا المعدل يتراوح حالياً ما بين2?1 طفل لكل امرأة في الدول الصناعية، وما بين 2?5 إلى 3?3 طفل لكل امرأة في الدول النامية والفقيرة، بسبب ارتفاع معدل وفيات الأطفال في تلك الدول. ولكن أليس تخزين الحيوانات المنوية لاستخدمها لاحقاً، سواء للحفاظ على نوعيتها وسلامتها التي تتراجع مع التقدم في العمر، أو للحفاظ على مستوى الخصوبة، يحول الإنجاب وتكوين الأسرة إلى عملية طبية اصطناعية. فلكي يحدث الحمل باستخدام تلك الحيوانات المنوية، فلا بد من استخدام تقنيات التلقيح الاصطناعي المعروف بأطفال الأنابيب، وهو ما يعني تعريض الزوجة لتدخل طبي، ليس بالسهل أو الهين. كما أن نتائج الإخصاب الخارجي ليست مضمونة بالكامل، حيث لا تزيد حالياً معدلات النجاح في الإخصاب عن 26 بالمئة في من هن بين سن الخامسة والثلاثين والأربعين، وتنخفض إلى أقل من 10 بالمئة فقط، لمن بلغن الأربعينيات من العمر.