ما دفعني لقراءة مذكرات جرّاح الأعصاب البريطاني «هنري مارش»، هو قصة رواها لي أحدهم في نيويورك عن رجل جاء ليرى حفيده، لكن الأخير أصيب فجأة بنوبة صرع عصبية ألقته أرضاً، فأغمي عليه وارتجّ وطفَا الزبَدُ على فمه. كان التشخيص: ورماً دماغياً كبيراً. أُدخل غرفة العمليات وتم استئصال الورم، وتبين أنه من النوع الخبيث ليفقد نصف الساحة البصرية اليسرى بعد الجراحة، وليخضع للمعالجة الكيماوية. لكن مثل هذه الأورام غير الحميدة تمثل إعلاناً بأن العمر قد انقضى والموت كشر عن أنيابه ودنا. وأتذكر هنا قصة قائد سلاح الجو الصهيوني «آل غور» الذي حطم سلاح الجو العربي في هزيمة عام 1967، حين اكتشف أنه مصاب بسرطان الدماغ فأمسك بالمسدس وأفرغه في رأسه وانتحر، فلم ينتظر جراحة ولا معالجة كيميائية. وفي قصة جرّاح الأعصاب والمخ البريطاني الشهير، وبعد رحلة أربعين عاماً في شق الجماجم واستئصال الأورام الدماغية، الحميدة والخبيثة، توقف الدكتور هنري مارش ليودع خلاصة تجاربه في كتابه «حول الموت والحياة»، والذي اعتبره البعض ضمن أفضل عشرة كتب استقطبت الرأي العام البريطاني، مما دفع مجلة «در شبيجل» الألمانية الشهيرة لإجراء حوار مطول معه حول كتابه وخبراته. وظهر الجراح في صورة مع مريضه «لورانس» الذي أرهق في عمليته من أجل استئصال ورم دماغي، وعلقت عليها المجلة متسائلة: «ما هو ذلك الشعور لدى من يشق الذات الإنسانية المكومة في الدماغ، وكيف تكون حياته بالقرب ممن يعانون مالا تتحمله الجبال؟». بلغ الجراح «مارش» سن التقاعد (65 سنة) مؤخراً، وهو الآن يودع الطب ويتجه إلى التنفس خارج قاعات العمليات وظروف التوتر التي عادة ما تسودها. ولد الرجل عام 1950، وهو يمثل استثناءً إلى حد ما عن سيَّر بقية زملائه من الأطباء، إذ درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد في جامعة أوكسفورد، ويعتبر نفسه مثقفاً قبل أن يكون جرّاحاً. عُرف عنه أنه أجرى بعض عملياته بتخدير موضعي، فالدماغ مركز الأحاسيس، لكنه لا يحس، فلو شققنا الدماغ شقاً ما أحسّ، في حين أن وخزة بعوضة في قدم أحدنا تجعله يحك بشراهة ليندفع الفطر الجلدي لاحقاً! كما ظهر جانبه الإنساني حين شارك في تخفيف آلام المصابين في أوكرانيا خلال حربها الأهلية الدائرة منذ العام الماضي، وتم عرض أعماله في فيلم وثائقي بثته قناة البي بي سي. عمل «مارش» في مستشفى «سانت جورج» في لندن، وكتب إعلاناً صغيراً في مكتبه يقول فيه: هنا قسم طبي وليس ساحة مرور. واحتفل بتقاعده في الأول من مايو الماضي. «مارش» يكره جو المستشفيات، وقد صبر فيها على مضض، ليكتشف مع اتساع معرفته بالعلوم العصبية، كم كان جراحو الأعصاب أفظاظاً في التعامل مع أنبل مادة في الكون: الجملة العصبية المركزية (المخ). أجرى «مارش» 800 عملية في الدماغ، وهو يقتبس من الجراح الفرنسي المشهور «رينيه ليريش» قوله: إن الجراح يحمل معه مقبرة تزداد اتساعاً، كما أن الجانب المظلم من الجراحات يظهر أكثر فأكثر مع تقدم العمر ونضج الجرّاح، إذ يدرك أنه هو أيضاً عرضة للمرض، كما هي الحال في مرضاه الذين كان ينظر إليهم من شاطئ الوادي الآخر، حيث الصحة والمتعة والشباب والقوة.