منذ منتصف القرن الماضي، وبالتحديد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت الدول العربية تنال استقلالها، وهي تعيش في خضم المخاطر والأطماع التي عصفت بالمنطقة، وتزايد النكبات والأزمات في العديد من البلدان العربية، وقد فرض كل ذلك ضرورة تبني استراتيجية للدفاع المشترك عن أي دولة قد يُعتدَى عليها. وحينها وقّعت سبع دول عربية في 1956 «معاهدة الدفاع المشترك»، وشملت جملة من البنود، بيد أنها لم تدخل حيز التنفيذ الفعلي إلا في مَواطن قليلة جداً منها تلك التي جرت إبان تشكيل قوات الردع في لبنان عام 1976. ومع تأجج الصراع الآن في العديد من الدول العربية، واتساع رقعة العمليات الإرهابية، وتفاقم خطر المليشيات وجماعات العنف والتطرف، والفوضى الإقليمية العارمة مؤخراً، تعالت من جديد الأصوات العربية مطالبة بالعودة إلى إنشاء قوة عربية مشتركة للتصدي للتحديات المحدقة بالمنطقة. وقد كانت هذه دعوات صائبة، وفي محلها، بحكم ضغوط الواقع العربي النازف والمزدحم بالأزمات في العديد من بؤره الملتهبة. نعم نحن في حاجة إلى قوة عربية مشتركة الآن أكثر من أي وقت مضى؛ لأن الظروف اليوم تختلف، فإذا كان التعاون العسكري العربي نظر إليه بالأمس باعتباره خياراً ملائماً فحسب، ومع ذلك لم يتم تفعيله إلا في حدود ضيقه، فإن الحال اليوم أصبح فيه التعاون العسكري العربي ضرورة ملحة لا بديل عنها للحفاظ على ما تبقى من النظام الإقليمي العربي. ولو انخرطت 22 دولة عربية في عملية بناء جهد عسكري مشترك، وساهمت كل دولة بعدد ألفي جندي على سبيل المثال، ستكون هناك قوة قوامها 44 ألف جندي يعملون تحت قيادة موحدة، وجاهزون لصد الاعتداءات، والذود عن مكتسبات الأمة. وليس بالضرورة أن تكون هذه هي طريقة توزيع «كوتا» الإسهام في هذه القوات، بحكم اختلاف ظروف الدول الأعضاء ديموغرافياً وجغرافياً، ولكن يمكن الاستئناس في ذلك بتجارب منظمات إقليمية أخرى أوروبية وأطلسية وأفريقية وغيرها كثير. ولكن المهم أن يكون ثمة اتفاق منذ البداية على الهدف، وهو أن تكون هذه القوة المشتركة هي اليد الضاربة المنفذة للقرارات السياسية والضامنة لتحقيق التوازن في مواجهة الخصوم الإقليميين والدوليين، وعلى رأس أولوياتها حماية الأمن القومي العربي ومواجهة تسونامي الإرهاب المتنامي، ووضع حد للتطفل والتوغل الإسرائيلي والإيراني والتركي في المنطقة. ولكي تكون تلك القوة المشتركة فاعلة حقاً وجاهزة يفترض أن تكون في شكلها ونظام عملياتها قوات غير تقليدية، لأسباب استراتيجية، فمفاهيم وأشكال الحرب تطورت، أو بكلمة أدق تغيرت، وباتت سمة المرحلة هي التحديث والتجديد، وتجاوز الصور النمطية القديمة في مفاهيم الدفاع، وأصبحت الفرق الحربية الصغيرة من قوات العمليات الخاصة تحقق مكاسب سريعة في وقت قياسي وبأقل تكلفة، على غرار وحدة القوات الخاصة «نايفي سيل» التي نفذت عملية تصفية بن لادن دون أن يشعر بها أحد، أو القوات الخاصة «الكامندوز» التي نفذت عملية قتل المدعو «أبوسياف» لتخليص رهائن أميركيين كانوا محتجزين شرق سوريا. والغرض الأول الآن من تشكيل القوة العربية هو مواجهة تفاقم خطر جماعات الإرهاب والتحديات التي تتعرض لها المنطقة بسببها، والوضع الراهن لا يحتاج لتشكيل قوات بيروقراطية تقليدية بغرض خوض حروب نظامية؛ لأن المواجهة الآن ضد جماعات مسلحة غير نظامية «عصابات»، وبالتالي فإن الاستجابة ينبغي أن تكون غير نمطية وغير تقليدية أيضاً. ومن هنا، فالعمل يحتاج لتعاون وثيق وتنسيق ومعلومات لتحديد مستوى الخطر وتقليصه وإبعاد تداعياته الخطيرة على المنطقة. وبعبارة أخرى، فالقوة التي نحتاج إليها بالفعل للقضاء على الإرهاب من وجهة نظري هي قوات خاصة عربية، محدودة العدد، عالية الكفاءة، متطورة التسليح والنظم، شديدة الجاهزية، ذات قواعد اشتباك واضحة، وهذا ما يفيد المنطقة، بدلاً من التفكير في حشد جيش بيروقراطي جرار.