تلح عليّ في الفترة الأخيرة الكتابة عن «الاستعمار الإعلامي»، رغم أنه لا يرد بين أنواع الاستعمار التي درسناها. لكن ما نشهده من صور الهيمنة الإعلامية داخل الدولة الواحدة أو المنطقة بأدوات إعلامية محلية أو «وطنية»، يدفعنا لذلك النوع من الدراسات عن «الاستعمار الداخلي». ولننظر لعشرات القنوات الفضائية أو الصحف، في منطقتنا مثالاً، لنرى نوع الاحتلال المتصور للعقل العربي ممثلاً في أنواع من التخريب النفسي أو التضليل أو الإخضاع أو التوجيه، مما تشيب له الولدان. فهي صفات الاستعمار التقليدي السابق نفسها، تعريفه بالسيطرة على العقول عن طريق التعليم والتثقيف وأنماط القيم والملبس، بل والجماليات والفنون.. إلخ. وهي الأساليب نفسها وتزيد مع الاستعمار الجديد، خاصة في «الميديا». ولا بد أن نعالج هذه المسألة فعلاً بالجدية المناسبة؛ لأنها ترتبط بمدى قدرتنا على قياس العامل الذاتي والخارجي المؤثر على حياة شعوبنا اليومية في هذه الفترة، بما يكاد يندرج تحت بند «اعرف عدوك»! إن العين لا يمكن أن تخطئ رؤية ذلك في قوة التأثير الإعلامي وغير الحقيقي لبعض النظم بل والدويلات والقيادات، أو كما يبدو في الترويج لصورة هذه أو تلك من الحركات والظواهر، فيما يتجسد كاحتلال ضارب لا يمكن الفكاك منه، حتى لو كانت الصورة مصنوعة في مكان آخر، كصوره «داعش» مثلاً عند بعض شباب هذا الجيل. لفت نظري أننا في المنطقة العربية، لم ننشغل كثيراً في الحركات الثقافية والفكرية بالدراسة المعمقة لمعنى الاستعمار، عناصره وآلياته، بأكثر من التركيز على مشروعاته السياسية من «سايكس بيكو» إلى الشرق أوسطية! أو افتعال معارك مع أو ضد الحداثة والتحديث كمنتج استعماري! أو القليل مما صدر حديثنا عن الاستشراق وآثاره على نحو ما انفرد بذلك إدوارد سعيد بكلام عقلاني، كان بالتأكيد أعمق مما ذهب إليه عباس العقاد من قبل! هنا اعترف شخصياً أن أفضل ما قرأت في الرد على نوعية «الاستعمار العقلي» الصهيوني كان لـ«مكسيم رودنسون» في كتابه «عن الصراع العربي الإسرائيلي»، وكشفه لما ردده الصهاينة من منطق احتل العقل الأوروبي والعالم ثالثي بقوة مذهلة في الخمسينيات والستينيات. عادت تلح عليّ صورة «الاستعمار العقلي» أو الثقافي هذه، كما يمثلها في تقديري الإعلام العربي هذه الأيام، وكيف تتلاعب أجهزته بقوة شبه استعمارية غازية - بعقول المواطنين لسحق قدرتهم على موازنة القوى المتنافسة في المنطقة مثلاً، أو تحليل طبيعة القوى الفاسدة أو الناعمة، أو معرفة الحل الأمثل لقضايا الأوضاع الداخلية بدلاً من التضليل لصالحها! والأمثلة هنا شديدة الفجاجة، فثمة جها محافظة، لكنها وراء أكثر أدوات الإعلام حداثه أو تحرراً للقيام بدور المستعمر الحديث، وثمه حركات ربتنا صغاراً على كراهية الغرب وثقافته وإذ بها تملك خطاباً لا يمكن أن تدرك خلاله أنها أداة إمبريالية صارخة! الاستعمار الإعلامي الذي يساند هذا الاحتلال للعقول، يملك أدواته اليوم بجسارة، تتجاوز ما يتضمنه هذا الإعلام نفسه في حالات كثيرة فعلاً من عناصر التثقيف والتنوير، ولكن ذلك سيصير من قبيل «فوائد الاستعمار» التي كانت تتردد أمامنا صغاراً في كل موقع.. للاستمتاع «بأدوات التحديث المبهجة! في أكثر من مؤتمر وندوة أفريقية حديثة حضرتها، وجدت إخواننا الأفارقة، خاصة من الجنوب الأفريقي، وقد طوروا بحوثهم القديمة عن الاستعمار من نوع جديد، أي الاستعمار الاستيطاني، إلى بحوث «ما بعد الأبارتهيد»، ثم ينتقلون الآن إلى مجال بحثي شيق وجديد عن «الكولونيالية» ‏Coloniality ?ومابعد ?الكولونيالية ?Post Coloniality ?ثم «?تصفية ?الكولونيالية» ?decolonality !! ?ورأيت ?العناوين ?رائجة ?في ?معرض ?المؤتمر ?الكبير ?فى ?داكار، حملتها لأحدّث بها الأصدقاء في عالمنا العربي، ولكني ما إن عدت للقاهرة حتى وجدت احتلالًا آخر يسيطر على أجواء المنطقة، لا يتوقف كثيراً عند أحزان الإرهاب، وإنما يعيش الآفاق المتعددة الوجوه والبهجة لمسلسلات رمضان! قلت نعود بعد الفاصل!‏?