تتعالى الأصوات من كل حدب وصوب، مطالبة بالإسراع في مواجهة الانهبار الأمني هنا وهناك من العالم العربي، والدولي كذلك، والملاحظ أن الأصوات المعنية هي أصوات مسؤولين في السلطات السياسية كما في السلطات الأمنية، وغيرها، وفي هذا مفارقة فاضحة قد تستدعي تحقيقات ربما تُفضي إلى فتح ملفات توصلنا إلى المسؤولين الأمنيين في البلدان المعنية، مع إشارة تكمن فيها العقدة التي نبحث عنها، ونعني أن كثيرين من هؤلاء كانوا متربعين على عروشهم منذ أوقات تتحرك من العِقد الواحد إلى عقود كثيرة، وعلى الرغم من ذلك، ظلت الأمور تندرج في ملفات قد يكون عنوانها «تحت السيطرة» أو «تحت الرحمة». ولسنا نحن مِمن يستنبط الحاضر من الماضي حرفاً بحرف، بحيث نقول: إن كل أو معظم ما يواجهه العالم الراهن كان قابعاً في أزمنة أولئك المسؤولين ومَن قبلهم، ولكننا ننطلق من أن كل حدث يمتلك تاريخيته المفتوحة، التي تعني -ضمن ما تعنيه- إن جدلية السابق والراهن إنما هي تعبير أن هذين البعدين التاريخيين يُفضي واحدهما إلى الآخر، بحيث لا يصح البت بأحدهما من دون الآخر، بالاعتبارين البنيوي والوظيفي: إن الحاضر متضمن في الماضي، بمعنى أن هذا الأخير يمثل بقدر ما، خزاناً يصوغ إرهاصات ذلك الثاني (الحاضر) بنسبة أو بأخرى. لنطبق ذلك على قضيتنا هنا، فنجد -ولا نقول: نفاجأ- أن ما أصبح سيد الموقف اللغوي إنما يتمثل الآن في مصطلح «الإرهاب»، وكي لا نعقد المسألة المتصلة بهذا الأخير، الذي تحول إلى تسونامي يسعى إلى ابتلاع الجميع، الصالح منهم والطالح، علينا أن نكتشف صيغة مناسبة للتساؤل الذي أوصلنا إلى ذلك التسونامي، ولعلها هي التالية: ما الذي صنعته أجهزة الأمن المعنية سابقاً، واستمر حتى يومنا هذا؟ ها هنا، لا نميز بين شرق وغرب وشمال وجنوب، لقد أنتجوا حاضنة أو حاضنات الإرهاب إياه، في الغرب أُنتجت منذ التحولات العظمى التي قادت إلى النظم الرأسمالية منذ بواكير العصور الحديثة، وعلى الرغم من التقدم الهائل الذي أنجزته هذه الأخيرة على المستوى التاريخي والعالمي، فإن هذا التقدم كان يتجه إلى عصرنا هذا المعيش، الذي فككه ماركس وآخرون، حين أطلقت القولة الهائلة التالية: كلما ارتفعت قيمة الأشياء، هبطت قيمة الإنسان، أما مآل هذا الهبوط فقد عبر عنه بوغنون في كتاب «أميركا التوتاليتارية» حين قال: «العولمة هي السوق المطلقة». وإذا كان الأمر كذلك فقد وجدت هذه «السوق المطلقة» أفضل خصائصها في «الجنوب»، ومن ضمنه العالم العربي، حيث تكونت فيه منذ ما قبل تلك السوق، وفي وجودها الراهن، حاضنات للإرهاب الوحشي «الداعشي» وغيره، أما هذه الحاضنات فتتجلى في أشنع أنماط النُظم، التي تحول فيها «التخلف التاريخي» إلى «تخليف فِطري» أصبح متبلوراً في قانون «الاستبداد الرباعي»: استئثار في السلطة، وفي الثروة وفي الإعلام، وفي المرجعية المجتمعية المؤسسة على أن الحزب الحاكم وقائده هما اللذان يقودان الدولة والمجتمع، كيف إذن، لا يأتي ما أتى وأصبح واقعاً جهنمياً ليست «جهنم» أبي العلاء إلا فرعاً منه. هكذا يتسارع أرباب نظم عربية إلى إعلان قوانين الطوارئ، وتصور أن قانوناً للطوارئ معلن في سوريا منذ عام 1963. هكذا تولد المأساة أي التحذير من أن «الدور» آت على الجميع في الشرق والغرب وفي الكون كله، وعليهم جميعاً أن يسرعوا قبل فوات الأوان. أما كاميرون رئيس الحكومة البريطانية فيعلن إن «داعشاً» في سوريا والعراق يمثل خطراً وجودياً على الغرب كجزء من العالم، وآخرون عرب أثنوا على هذا الإنذار في بلدان عامرة بالفقر والفساد والتهميش.. إلخ. ------------ أستاذ الفلسفة - جامعة دمشق