هناك اليوم ثلاث مشكلات كبرى ومتفجرة في النطاق الجغرافي المحيط مباشرة بأوروبا الغربية: فأولاً، وفي الشرق منها، تقيم الأزمة الروسيّة التي يتصدّرها، من دون أن يختصرها، النزاع حول أوكرانيا والمستقبل السياسي والوطني للأوكرانيين. ثانياً، في الجنوب من أوروبا، تتجمّع نذر المشكلة اليونانيّة، وموضوعها المباشر مسألة الديون التي أفضت إلى توقّف المفاوضات بين أثينا ودائنيها وإعلان حكومة «سيريزا» اليسارية نيتها إجراء استفتاء عامّ، فيما يتردد احتمال الخروج اليوناني من «اليورو» مصحوباً باضطرابات اقتصادية وسياسية. ثالثاً، وفي الجنوب الشرقيّ للقارة، هناك الخلاف مع تركيّا حول جملة من الأمور التي لم تُبتّ كلياً من قبل، لكنْ منذ عامين بات يتصدّر التنازع مع أنقرة تشكيك الغربيين بصدقية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فيما خص التعاطي مع تنظيم «داعش» وعموم الحرب السورية. وهذه العناوين، وإن كانت تعني الولايات المتحدة أيضاً، خصوصاً منها ما يتعلق بروسيا وتركيا، إلا أنها تبقى عناوين أوروبية أساساً، تهم واشنطن من خلال تصورها الاستراتيجي- الكوني الذي يمر حكماً عبر أوروبا، ومن خلال النظرة الأميركية إليها وإلى استقرارها. والحال أن الشيء نفسه ينطبق على مشكلات ما وراء المحيط الأوروبي المباشر، أي الملف النووي الإيراني من جهة، ومسائل الإرهاب المتفاقم والهجرة غير الشرعية في الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط، وصولاً إلى بعض بلدان أفريقيا، كالصومال في الشرق ومالي في الغرب.ويُلاحظ، هنا كما هناك، أن الأزمة الديمقراطية تلعب دوراً وازناً في معضلة العلاقة بين أوروبا ومحيطها وما وراء محيطها. على أننا إذا نظرنا إلى موضوع ضعف الزخم الديمقراطي، وضعف دوله وقدرتها على التدخل تالياً، لا يسعنا إلا الوقوف عند لحظة مهمة جداً في تأسيس هذا المسار: إنها حرب العراق التي قادها الرئيس الأميركي السابق جورج بوش في 2003. فهذه الحرب، إنما أسست لإضعاف الزخم الديمقراطي كونياً وهو في ذروة اندفاعه بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفييتي ومعسكره السابق. فلأول مرة، وبعد عقود مديدة من التحالف الوثيق، انقسم الغرب إلى غرب أميركي يحارب في العراق وغرب أوروبي تقوده فرنسا وألمانيا يرفض حرب العراق، بعد تأييده حرب أفغانستان التي اعتبرها مشروعة بسبب جريمة 11 سبتمبر 2001 وإقامة بن لادن في أفغانستان. ولا نزال نذكر المهاترات الشهيرة التي توّجها كلام دونالد رمسفيلد، وزير دفاع بوش الصقري، عن «أوروبا القديمة» التي باتت عديمة الصلاحية. ولكنْ إلى ذلك، تأدى عن الحرب العراقية انفجار في أدبيات «صراع الحضارات» و«حروب الأديان»، مما أضعف ويضعف المضمون الكوني للديمقراطية بقدر ما عزز الوعي الماهوي للولاءات الصغرى. ومن ناحية أخرى، بدا أن الديمقراطية كما وعد بوش بحملها إلى العراق، ومنه إلى بقية الشرق الأوسط، لا تتورع عن اعتماد الغش والكذب، كما ظهر في أكذوبة وجود أسلحة للدمار الشامل في العراق. وهذا بدوره حدّ من جاذبية الدعوة الديمقراطية. وفوق هذا، بدت الديمقراطية للعراقيين، ولكثيرين من العرب والمسلمين، عنيفة جداً، ليس فقط بسبب خوضها الحرب، بل أيضاً بفعل صدامها الحاد مع السكان المحليين بعد الحرب، على ما حصل في مدينة الفلوجة مثلاً لا حصراً، ناهيك عن فضيحة سجن «أبو غريب» فيما كانت تتردد من بعيد أصداء سجن غوانتانامو في كوبا. وأخيراً، لم تفضِ المغامرة الكبرى إلى أي نجاح يُذكر في العراق، فقد أطيحت ديكتاتورية صدام حسين وحزب «البعث» ليحل محلها انفجار في الولاءات الطائفية مشوب بحروب أهلية متقطعة تبلغ اليوم ذروتها. وليس الهدف من تذكّر هذه العوامل إعفاء العراقيين من مسؤولياتهم، وأهمها عدم استثمارهم إطاحة صدام حسين والحضور الأميركي في بلادهم للقيام بما قام به اليابانيون بعد تحرير القوات الأميركية لهم إثر هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية. فاليابانيون، بقبولهم دستور الجنرال الأميركي «ماك آرثر»، أسسوا نظاماً ديمقراطياً ثم تحولوا إلى عملاق اقتصادي عالمي. أما العراقيون فاتجهوا، تحت راية المقاومة وبذريعتها، إلى قتل بعضهم بعضاً، وتدمير مجتمعهم واحتمالات نهوضه في مستقبل قريب. إلا أن هذه العوامل لا تلغي حقيقة إضعاف الزخم الديمقراطي بنتيجة حرب العراق، كما خيضت وبالحصائل التي ترتبت عليها. وهذا الإضعاف إذا كان في وسع أميركا الأوبامية البعيدة أن تتلافى بعض آثاره، فلن يكون ذلك سهلاً على أوروبا القريبة. -------------- كاتب ومحلل سياسي - لندن