في أول أمسية لي في لندن قادماً من موسكو عام 1980 سألني الفنان العراقي ضياء العزاوي عن الأوضاع في الاتحاد السوفييتي. قلت له «روسيا تحتاج ثورة». قال بلهجة بغدادية متهكمة «بَعَدْ ما وصلنا لندن»!.. وكان عليّ أن أوضح له ولنفسي حاجة روسيا لا إلى ثورة تقليدية تطيح بالنظام القائم، بل تعيد هيكلته، وفق اقتصادات العلوم والتكنولوجيا التي أدرس فيها الدكتوراه في «معهد الدراسات الشرقية»، وهو واحد من مئات المعاهد، والمختبرات، ومؤسسات الأبحاث التابعة لـ«أكاديمية العلوم السوفييتية»، التي تعتبر الدماغ المفكر للدولة السوفييتية. وروسيا كما يراها الأكاديميون الروس تستحق نظاماً اقتصادياً وثقافياً واسع الأفق كمساحتها الأكبر في العالم، وكتلتها القارية الأوروآسيوية القائمة بذاتها، ومخزونها من أكبر الاحتياطيات العالمية للمياه العذبة، والطاقة، وإرادة شعبها، الذي لم يعد يتكون من العمال والفلاحين بالدرجة الأولى، بل من ملايين العلماء، والأطباء، والمهندسين، والتكنوقراط. ولم يخطر بذهني آنذاك أن عميد معهدي يفجيني بريماكوف، سيصبح أحد أبرز زعماء الثورة الروسية المستمرة منذ انهيار الاتحاد السوفييتي حتى وفاته الأسبوع الماضي. وبريماكوف صحفي، وأكاديمي، ودبلوماسي، ورجل دولة شغل مناصب عليا في العهدين، السوفييتي المنهار، والروسي الصاعد، حيث رأس «معهد العلاقات الدولية والاقتصاد العالمي»، وجهاز «المخابرات الروسية الخارجية»، ووزير الخارجية، ورئيس مجلس الوزراء، وكان المنافس القوي لبوتين على رئاسة روسيا، والذي نعاه بقوله «بريماكوف رجل دولة، وعالم، وسياسي، ترك خلفه تراثاً كبيراً جداً»، وذكر أنه يهتم دائماً برأيه بالأحداث العالمية، «خصوصاً عندما يكون الوضع ليس بسيطاً». وبريماكوف رجل الوضع غير البسيط في بلده والعالم، والذي جعله يقرر في أول زيارة له إلى واشنطن، كرئيس وزراء لروسيا تحويل مسار طائرته عائداً إلى موسكو، عندما بلغه نبأ قصف «الناتو» يوغسلافيا. أطلق على ذلك الحادث اسم «تحليقة بريماكوف». وسيرة حياة بريماكوف تحليقة دائمة في المهمات غير البسيطة إلى الملوك والزعماء، بينهم العاهلان، السعودي فهد، والأردني الحسين، والرؤساء عبدالناصر، والقذافي، وصدام حسين، وحافظ الأسد، والزعيمان، الفلسطيني عرفات، والكردي مصطفى البرزاني، والزعماء العالميون بوش الأب، والفرنسي ميتران، والبريطانية ثاتشر. وقد أطلق على بريماكوف لقب صديق صدام حسين، بسبب لقاءاته به منذ ستينيات القرن الماضي، وقبيل، وبعد، وأثناء حربي 1991، و2003، ودفع مكوثه الخطر في بغداد بعد الغزو الجنرال «جون شو»، وكيل وزراة الدفاع الأميركية لاتهامه بالمسؤولية عن اختفاء أسلحة الدمار الشامل العراقية، «التي أمَّنَ شحنها من ميناء أم قصر جنوب العراق»! كتاب «يوميات بريماكوف في حرب الخليج» صدر عام 1991، ويلخص عنوانُه الثانوي «حرب كان تجنبها ممكناً» وجهة نظره في تلك الحرب، وقد عرضها عبر محادثاته مع صدام حسين، الذي يصفه بـ«الصلابة التي بلغت في أحيان كثيرة حد القسوة، وقوة الإرادة الأقرب إلى الاستبداد والتعنت، والاستعداد للمجازفة والتهور، وبلوغ الهدف مهما كان الثمن، وامتزج كل ذلك بغموض خطر». وتضمن الكتاب تفاصيل لقاءاته مع ثاتشر «التي تكلمت ساعة كاملة دون توقف، مؤداها أنه لا ينبغي الاكتفاء بسحب القوات العراقية من الكويت، بل يجب توجيه ضربة ساحقة إلى العراق، وكسر ظهر صدام حسين، وتدمير كل قدرات هذا البلد العسكرية وربما طاقاته الصناعية». وعلى عكس ذلك أبدى الرئيس بوش الأب اهتماماً كبيراً بمعرفة «طباع صدام حسين ونفسيته وتاريخ علاقاتنا به، وكان يسجل ذلك في دفتره». و«روسيا والعرب: خلف كواليس الشرق الأوسط منذ الحرب الباردة حتى الآن» عنوان كتابه الصادر عام 2009 وفيه يتأمل أحداث نصف قرن «في المنطقة، كثير منها هدف إشاعات مزيفة تكشّفت أمام عينيّ. وبعضها إمّا لم يُعرف عنها شيء، أو عفا عليها النسيان، مع ذلك لعبت دوراً هائلاً في جعل المنطقة ما هي عليه اليوم: منطقة متعارضة متضاربة الألوان، ومعقدة، ومستعصية بشكل خطير، وساذجة أحياناً، ومغدورة في أغلب الأحيان. ومن السهل للغاية أن نأخذ فكرة مغلوطة عن هذه المنطقة البالغة الأهمية للسياسة والاقتصاد العالميين».