عندما تتحرك إيران في اتجاه يخالف طبيعتها السياسية والعقائدية، فهذا يعني أنها في «مأزق سياسي» وتبحث عن مخرج لإنقاذ نفسها. أُعلق هنا على التسريبات الإعلامية التي انتشرت مؤخراً، حول زيارة وفد من حركة «طالبان» الأفغانية، الحركة التي تنتمي مذهبياً للسنّة، إلى إيران، الدولة التي تستخدم المذهب الشيعي للتغول والتدخل في جوارها السنّي. السبب الحقيقي لهذا التطور، أن إيران لم تعد تتمتع بـ «الميزة الاستراتيجية» في المنطقة، والتي كانت لها قبل بداية «عاصفة الحزم»، والتي كان أمين عام «حزب الله» اللبناني، حسن نصر الله، يوفرها لها في المنطقة العربية، سياسياً وإعلامياً. فهذه الحرب هي بمثابة «القشة التي قصمت ظهر البعير»، فقد أُصيبت إيران بخسائر يبدو أنها مؤلمة! لم تكن إدارة الصراع مع إيران بالقوة العسكرية فقط، وإنما كانت إحدى أدواتها، بل كان هناك نشاط دبلوماسي واقتصادي وإعلامي عربي واضح ونشيط. دبلوماسياً، شهدنا أكثر من زيارة لمسؤول عربي (الرئيس عبدالفتاح السيسي، ومؤخراً ولي ولي العهد السعودي) إلى أحد أهم حلفاء إيران وهو روسيا، وبالتالي فهذا يعتبر اختراقاً سياسياً مهماً ضد إيران. ومن الناحية الاقتصادية، خفّضت الدول المنتجة للنفط أسعار البترول في السوق العالمية للتأثير في الاقتصاد الإيراني الذي يعتمد على عائدات النفط من العملة الصعبة، فزادت المصاعب في تمويل الحركات التي تعتمد عليها إيران في إثارة الفوضى في المنطقة، مثل «حزب الله» اللبناني والحوثيين. أما إعلامياً، فكثير من الإعلاميين العرب الذين كانوا يرون في السياسة الإيرانية نجاحاً، لأنها وقفت ضد إسرائيل، فإنها بعد فضح مواقفها في سوريا والبحرين خسرت الكثير، بل إن استضافة بعض القنوات الإعلامية العربية لبعض الشيعة المعتدلين زاد من توضيح الحقيقة الإيرانية، وبالتالي يمكن فهم أسباب اتجاه إيران للتقرب من «تنظيمات تعاني التهميش». ومن خبرة تعامل إيران، أزعم أن لديها القدرة على التشكل والتحالف مع أي قوة سياسية حتى ولو كانت «الشيطان الأكبر»، الولايات المتحدة الأميركية. وقد قامت بذلك فعلاً في أكثر من موقف ضد «طالبان» نفسها وضد نظام صدام حسين في العراق. يبقى الأمر غير الواضح هو عدم إبداء واشنطن أي تخوف من التحالف الجديد. ومن خبرة التعامل الإيراني أيضاً، أظن أن مصلحة النظام السياسي في طهران تعلو بالنسبة له أي مصلحة أخرى، حتى ولو كانت مصلحة الشعب الإيراني نفسه الذي ثار في عام 1979 من أجل تغيير وضعه الاقتصادي والمعيشي، والدليل تمويل إيران للحركات والتنظيمات المتطرفة رغم المصاعب الاقتصادية الداخلية. وبالتالي يمكننا القول: إن زيارة وفد «طالبان» لإيران تعبّر عن توجه ملحوظ لدى الأخيرة، هو إعادة ترتيب أولويات أوراقها في المنطقة. ومن الناحية الموضوعية والمنطقية، هناك إرث تاريخي بين إيران و«طالبان» يفترض أنه لا يسمح لهما بالتقارب. فإيران كادت تشن حرباً على «طالبان» عام 1998 بعد أن أعدمت الحركة الأفغانية عدداً من الدبلوماسيين الإيرانيين، كما أن طهران وقفت مع الولايات المتحدة في القضاء على حكم «طالبان»، لكن هذا لا يمنع إيران من التواصل مع الحركة، محاولةً للخروج من «المأزق» الحالي لطهران. الأصل في سلوك إيران هو المصلحة السياسية، وبالتالي لا يهم مع من تتحالف. هذه النقطة ينبغي على الكثيرين إدراكها. وإذا كانت إيران تستخدم الدين أحياناً أو الطائفية، فإنما من باب «اختلاق الأسباب»، وليس خدمة للدين أو حباً في طائفة كما يعتقد البعض. استخدمت لفترة من الوقت حركة «حماس»، وحاولت التقارب مع جماعة «الإخوان المسلمين». قد يكون «داعش» حالياً هو العدو المشترك بين «طالبان» وإيران، لكن لا تستغرب إذا تعاونتا في فترة لاحقة، وإن كانت بعض التحليلات تشير إلى استفادة إيران مما تفعله «داعش» الآن. «طالبان» ورقة سياسية جديدة ربما تستفيد منها إيران في زعزعة الاستقرار في المنطقة، وربما بانت بعض مؤشراتها بقتل سعوديين في اليمن بتهمة التخابر مع الولايات المتحدة. استشعرت إيران فشل مشروعها السياسي في المنطقة العربية وأن نفوذها السياسي والإعلامي بدأ يتراجع، وبالتالي بدأ القلق من تأثر وضعها في الخيال الشيعي ومكانة النظام في الداخل. ومن هنا فهي تحاول إعادة تشكيل تلك الصورة من خلال الاستعانة بمن هم خارج المنطقة. هي الآن تستقطب شيعة باكستان وأفغانستان للقتال في العراق وسوريا وتتحالف مع «طالبان»، وكأن كلاً منهما يريد العودة إلى الساحة بمساعدة الآخر!