حاولنا في مقالنا الماضي «جذور التشدد الديني» (4 يونيو 2015) أن نمارس منهجية «حفريات المعرفة» التي صاغها الفيلسوف الفرنسي الشهير «ميشيل فوكو» لكي نكتشف جذور التشدد الديني. واستطعنا من خلال دراستنا التحليلية النقدية لكتب المراجعات التي حررها قادة الجماعات الإرهابية المصرية ومن أبرزها «جماعة الجهاد» و«الجماعة الإسلامية» أن نكتشف أن الآلية الرئيسية التي استخدمها «فقهاء» الإرهابيون المزعومون هي «القياس الخاطئ والتأويل المنحرف» للآيات القرآنية والأحاديث النبوية. ولو أردنا أن نواصل نقد هذه الآليات، فإن الوقت لن يسعفنا لأننا نحتاج في الواقع -في مجال تفنيد النظريات التكفيرية- إلى كتاب كامل وخصوصاً فيما يتعلق بتقديس هؤلاء التكفيريين وعديد غيرهم ممن لا يمارسون التكفير ولا الإرهاب كمراجع قديمة عن السنة أبرزها «صحيح البخاري». غير أن الذي يدعو للنقد حقاً هو تصديق جماهير المسلمين وعلى رأسهم المشايخ التقليديون لعديد من المرويات التي وردت في كتب الحديث، بالرغم من عدم تطابقها مع العقل، ولا مع أسس الحياة الاجتماعية السليمة. فكأن هؤلاء جميعاً تحيزوا للنقل بغير بصيرة من كتب الأقدمين، على حساب التفكير العقلي الدقيق، والتحليل الثقافي المتعمق. ولو أردنا أن نمارس التحليل الثقافي لظواهر التشدد الديني من ناحية، والتطرف الذي تحول إلى إرهاب صريح من ناحية أخرى، لاكتشفنا أن السر يكمن فيما يسمى آفات «المركزيات الثقافية» غربية كانت أو إسلامية! وقد سبق لنا في سلسلة مقالات أن حاولنا بإيجاز تحليل طبيعة الصراع بين العالم الإسلامي وأهم ما في المركزيات الثقافية على اختلاف أنماطها أنها تكون في الواقع أنساقاً مغلقة تعاني من عقدة الزعم أن أنصارها يمتلكون الحقيقة المطلقة. في حين أن الاتجاهات الثقافية المعاصرة وأبرزها حركة «ما بعد الحداثة» تؤكد على سقوط «الأنساق المغلقة» وبداية عصر «الأنساق المفتوحة»، التي تنطلق من أن الحقيقة نسبية من ناحية، وأنه يمكن عن طريقها التأليف الخلاق بين متغيرات كان يظن من قبل أنها متعارضة، مثل الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية، والعلمانية والدين، والثقافة العولمية والثقافات المحلية. وإذا أردنا أن نُكوّن فكرة متكاملة عن «المركزية الإسلامية» فلا مناص من الاعتماد الأساسي على كتابات المفكر العربي المعروف الدكتور «عبدالله إبراهيم» الذي يعتبر في نظرنا الرائد العلمي الذي استطاع في مشروعه الفكري الكبير «المطابقة والاختلاف: بحث في نقد المركزيات الثقافية (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2004) صياغة نظرية متكاملة تضمنت التحولات التاريخية للمركزية الإسلامية، وأبرزت تناقضاتها الراهنة. وفي مدخل دراسته التي أعطى لها عنوانًا "المركزية الإسلامية: التفاعلات المعاصرة وحدود المفهوم"، أرجع نشوء المركزية الإسلامية تاريخياً إلى التفرقة التي أقامها القدماء بين" دار الإسلام" و"دار الحرب". غير أن هذه التفرقة التي استمرت قرونا أخلت سبيلها إلى مفهوم "العالم الإسلامي"، الذي يثير مشكلات متعددة باعتبار أننا نعيش في عالم متداخل المصالح والعلاقات والأفكار. وهو عالم تخلص إلى حد كبير من سجالات القرون الوسطى التي يقوم نموذجها الفكرى على الثنائيات الضدية، وإن كانت بقايا التفرقة التقليدية بين "دار الإسلام" و"دار الحرب" مازالت حاضرة، وخصوصاً في الحساسيات العقائدية بين الشرق والغرب أو بين الشمال والجنوب. ويمكن القول إن أشباح أفكار الماضي مازالت ماثلة في خطاب الحاضر الذي يثير إشكاليات الهوية والخصوصية والأصالة. ويقرر الدكتور عبدالله إبراهيم أن المجتمعات الإسلامية تعيش حالياً ازدواجاً خطيراً تختلط فيه قيم روحية وقيم مادية، ولم تفلح أبداً في فك الاشتباك بينهما على أسس عقلية واضحة، فالقيم الأولى حبيسة النصوص المقدسة وحواشيها، وقد آلت إلى نموذج أخلاقي متعال يمارس نفوذاً يوجه الحاضر انطلاقاً من الماضي. أما القيم الثانية، فقد غزت الحياة بشتى جوانبها باعتبارها إفرازات مباشرة لنمط العلاقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في العصر الحديث، وبالتحديد بفعل المؤثر الغربي». هكذا صاغ الدكتور «عبدالله إبراهيم» بدقة بالغة الإشكالية التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، وخصوصاً في خطاب التيارات الإسلامية معتدلة كانت أو متطرفة برفض الحداثة الغربية باعتبارها مشروعاً حضارياً، ويؤكد على ضرورة الاعتماد على التراث الإسلامي القديم، وخصوصاً ضرورة استعادة نظام الخلافة الإسلامية. كاتب ومفكر- مصر