تلقيت دعوة للمشاركة في لقاء دولي يحمل العنوان التالي «المجتمع والسلطة والدين في القرن الحادي والعشرين بالمغرب والمشرق»، وسيعقد في مدينة طنجة المغربية على امتداد ثلاثة أيام في نهاية أكتوبر وبداية نوفمبر. حقاً، يأتي هذا اللقاء في مرحلة تاريخية مفصلية بالنسبة إلى العالم كله، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، بل نكاد نرى أن مسوغات عقد مثل ذلك اللقاء الدولي أصبحت في حالة من الغليان، بحيث قد يكون التأخر في عقد اللقاء المذكور ولقاءات أخرى على مستوى العالم وفي مناطق متعددة من هذا الأخير، خطأ نظرياً- سياسياً، وكذلك أمنياً مباشراً يدفع الجميع ثمنه، القاتل والقتيل ومن بينهما، فكأنما الأمر يماثل إلقاء خمس وعشرين قنبلة ذرية على قارات العالم الخمس! لقد راح الناس يعيشون حالة من الهرج والمرج، خصوصاً في بلدان العالم العربي، بل في عموم بلدان الشرق الأوسط. وفي هذا كله، تبرز الرقاب التي تنتظر الحزَّ بسكاكين بمجرد أن تتحول إلى أيدي «الداعشيين». وقد نرى مثل هذا المشهد فيما عرضه علينا الكوميدي اليوناني «لوقيانوس السميساطي» في رائعته «مسامرات الأموات واستفتاء ميت»، وقد عاش الرجل منذ ولادته عام 125 ميلادية في موطنه سميساط، على الفرات الأعلى، ولغته كانت السريانية. أما المشهد المعني فيقوم على أن «تيمون» الذي «عاد إليه غناه بأعجوبة، يستقبل مملِّقيه القدماء -الأموات- بضربات من معوله.. مثلما رأى أن المذاهب الفلسفية تباع بالمزاد». (ترجم الكتاب من اليونانية إلياس سعد غالي عام 1967، في بيروت). إن دلالة هذا الشاهد تكمن في أن الفساد والقتل واختلاط المواقف أصبحت جميعاً مهيأة للظهور أمام المال والكذب وارتداء وجوه جديدة، كما لأخذ مواقف مختلفة، طالما أن الأمر يحتمل ذلك وغيره في حالة أخرى وظروف مختلفة. إن الأزمة المالية الاقتصادية، التي تعصف راهناً بالعالم برمته، تلقي بثقلها على هذا العالم، وخصوصاً منه «بلدان الجنوب» المتعثرة في كل شيء، وخصوصاً بما يقوم عليها من نظم فاسدة واستبدادية تمكنت طوال عقود سابقة أن تدمر الاقتصاد والسياسة والثقافة والتعليم والمنظومات الأخلاقية.. إلخ، فهي من ثم، ظلت عاجزة عن تحقيق حدود أولية من التنمية والتنوير وإعادة بناء ملامح «المستقبل»، وخصوصاً أنها حالت دون القيام بحدود ما من الإصلاح والتغيير على يديها ويدي بعض الشعوب، المحكومة منها دون كرامة وحرية وكفاية مادية ومعنوية. وعلى هذه الطريق، اخترقت المجتمعات ومعها بعض السلطات الحاكمة لمصلحة قراءات زائغة وقاصرة وظلامية للأديان، سواء منها «السماوية» والأخرى «الوضعية». وفي الحاضنة الطيّعة التي أنتجتها تلك الأحوال، جاءت غالبية الهبّات والحركات والانتفاضات في صالح من وجهها في خدمة مصالحه الشاملة وتحت قبضة ثالوث الاستبداد والفساد والإفساد، مجسداً بنمو واستفحال الطائفية والأصولية ذات المرجعيات المتعددة. وعلى هذا الأساس، اندلعت الحروب المضادة داخلاً وخارجاً. ومع ذلك، لم تبق اللوحة كما تريدها بعض النظم السلطوية المهيمنة، بل انطلقت حركات تحريرية وتنويرية ونهضوية في سياق ذلك كله، واستطاعت ولو أولياً، أن تحرك تطلعات المظلومين والفقراء والمسحوقين. لقد استطاعت أن توجه أعينهم نحو شعارات طالما كافحوا من أجلها، دون نيلها، وتبددت حدود النصر التاريخية، لكن ليبقى أمام الشعوب الفقيرة من العمل ما يمكن أن يؤسس لمجتمعات إنسانية تنطوي على الأقل، على حاضنة لعالم جديد، حرّ سعيد.