بعد أن أطلقت ألمانيا العنان لليونان بالخروج من الاتحاد الأوروبي الذي يسع بابه الجمل، جاء الدور على بريطانيا لكي تصبح تحت مرماها، ولكن من باب آخر لا علاقة له بمشكلة الديون المتراكمة أو القاصمة للظهور الأوروبية. الكل يعلم أن بريطانيا العظمى ليست اليونان التي أرهقتها ديون الرفاه، فيونان أرسطو وطاليس وأفلاطون ليست اليوم كذلك وإن كانت ساهمت في نقطة إضاءة في حياة البشرية كافة، لأنها ملكت حضارة الفكر والتنوير على مستوى العالم لقرون عدة. فالمقارنة بين بريطانيا واليونان في هذه الحالة الاقتصادية أو المالية ظالمة، لأن بريطانيا سياسياً لم تغب عنها الشمس وإن غابت عنها جغرافياً، فهي ما زالت تمارس دورها الرائد على المستوى العالمي مع حليفتها القوية أميركا وليست ألمانيا أو فرنسا بالطبع وإن كانت هي ما زالت جزءاً مهماً من المنظومة السياسية في الاتحاد الأوروبي، والمأمول أن يصبح في القريب العاجل وحدة سياسية شاملة ومتكاملة من شتى النواحي وليست العملة إلا وجهاً واحداً لهذا الاتحاد الذي يراد له أن يكون يوماً ما تحت مسمى الولايات الأوروبية المتحدة. وهذا هو الهدف النهائي لمثل هذا الاتحاد الذي استغرق إنشاؤه قرابة نصف قرن من العمل الجاد حتى الوصول به إلى هذا المستوى الذي بدأ واقعياً في التراجع نسبياً بدل الدفع به نحو الاتحاد الفعلي كالولايات المتحدة الأميركية التي ما زالت رقم واحد عالمياً وإن ذهب بعض التحليلات إلى تراجع الدور، ولكن الرقم واحد لم يتراجع بعد، والمتفائلون يرون أن تراجعه بحاجة إلى نصف قرن آخر فقط في حالة وجود البديل المناسب لإدارة العالم بجميع أزماته الظاهرة والباطنة. فبريطانيا تعد العاصمة الثانية عالمياً في محطات السياسة الدولية بعد واشنطن، فهي التي يتحدث ثلثا العالم بلغتها في كل الدول أي قرابة ثلاثة مليارات من البشر وهو مكسب حضاري ليس بالسهل التنازل عنه أو التراجع في مواصلة تطوره وتقدمه، فلغتها الإنجليزية هي واسطة العقد الحضاري في هذا الزمن ولأزمنة مقبلة بلا مواربة، فمن يتخلف اليوم عن ركب اللغة الإنجليزية كأداة وصل بين جميع حضارات العالم، فإنه الخاسر الأكبر مع احترامنا الشديد لكل اللغات القومية والبعيدة عن العنصرية في الطرح. ترى ما سر التحذير الألماني لبريطانيا في هذا الوقت الحرج من حياة الاتحاد الأوروبي الذي يخشى من انفراط عقده إذا لم يتم استدراك "مطباته" بحكمة العقلاء وحنكة السياسيين في إدارة فن الممكن فيما بينهم. فالسر المعلن هنا هو الاقتصاد بالدرجة الأولى الذي كان وراء هذا التحذير المقتضب من نائب رئيس اتحاد غرف التجارة والصناعة في ألمانيا عندما أشار إلى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سيكون «كارثياً» بالنسبة لبريطانيا وألمانيا معاً، وهو الذي أردف قائلاً: إن قطاع الأعمال يشعر «بالدهشة» من قرار الحكومة البريطانية إجراء استفتاء حول عضوية البلاد في الاتحاد الأوروبي. وقال أيضاً إنه ينبغي ألا تقدم ميركل أي تنازلات للجانب البريطاني فيما يخص شروط عضوية بريطانيا في الاتحاد، خوفاً من أن تحذو دول أخرى حذو بريطانيا. ولو ذهبنا قليلاً إلى حجم الاقتصاد الألماني في بريطانيا لوجدنا أن لغة المال والأعمال هي العالية هنا، فحسب تقديرات اتحاد غرف التجارة والصناعة في ألمانيا، فإن الشركات الألمانية توظف 400 ألف شخص تقريباً في المملكة المتحدة، فالعديد من هذه الشركات تشعر بارتباك إزاء الاستفتاء، وحذر نائب رئيس الاتحاد من أن عدداً كبيراً من الشركات الألمانية قد تفكر في تقليص استثماراتها في بريطانيا في حال قررت الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. ولا نعلم إن كانت ألمانيا مدركة عندما أراد الاتحاد الأوروبي وضع دستور موحد للاتحاد فكان القرار في استفتاء أيرلندا أكبر دولة تضررت من الأزمة الاقتصادية وهي التي حصلت على أكبر قدر من المساعدات المالية ومع ذلك اتخذت قرارها المستقل بقول «لا» للدستور الموحد من أول مرة، فليست بريطانيا بأقل من أيرلندا في هذا الإطار فهي أكثر أهمية لدى العالم وأكبر وزناً من أيرلندا سياسياً في المقام والمقامة.. فقول «نعم» للخروج ليس بمستبعد في الاستفتاء القادم.