في الشرق الأوسط ترتكب جريمة جماعية، الضحية واحدة، والمرتكبون كثيرون. الخاسر فيها هو التعددية والعيش المشترك، والرابح فيها هو مشروع «برنادر لويس» بإعادة رسم خريطة المنطقة بحيث يكون لكل جماعة دينية أو مذهبية أو عنصرية كيان سياسي خاص بها. ولمشروع «صموئيل هنتنجتون» بوضع الإسلام في جبهة وحضارات العالم الأخرى في جبهة معاكسة في إطار «صراع الحضارات». وتالياً يكون الخاسر هو القومية العربية باعتبارها حاضنة للتنوع الديني، والإسلام باعتباره عقيدة تؤمن بالأديان الأخرى وتحترم التنوع العرقي. ويكون الرابح فيها هو مشروع تهجير المسيحيين من الشرق وتصعيد كراهية المسلمين في الغرب. فالغرب، وخاصة الاتحاد الأوروبي، يعمل على تشجيع وتسهيل هجرة مسيحيي الشرق. ودول الاتحاد التي تعاني من الشيخوخة ومن الافتقار إلى اليد العاملة، بدأت تضيق ذرعاً بتضخم عدد المسلمين وبحرصهم على التمايز عن بقية المجتمعات التي يعيشون فيها. يحتاج الغرب إلى مبرر «أخلاقي» لوقف تدفق المسلمين وللحد من انتشارهم، ولكبح جماح توجهاتهم نحو إقامة جزر اجتماعية- دينية ترتفع فيها المآذن وتزدهر أنماط حياة خاصة تقوم على ثقافة الحلال والحرام في المأكل والملبس، في التربية والتعليم وفي العلاقة مع الآخر. ويتمثل المبرر الأخلاقي في تشجيع مسيحيي الشرق على الهجرة وتصوير هذه الهجرة على أنها تعبير واقعي عن رفض المسلم للآخر المسيحي، وعلى كراهية الإسلام للمسيحية. وهكذا يصبح استقبال المهاجرين المسيحيين في المجتمعات الغربية واحتضانهم ومساعدتهم تجسيداً للقيم الإنسانية التي تقول بها الثقافة الغربية. وهذا التجسيد يشكل بدوره مظلة للإسلاموفوبيا التي بدأت تخرج من كونها تعبيراً فوضوياً في الشارع الأوروبي.. إلى سلوك منظم في المطبخ السياسي. وهنا تلتقي وتتكامل جريمة الاعتداء على مسيحيي الشرق وتهجيرهم، مع برنامج الضغط على الحضور الإسلامي في الغرب أو على الأقل تحجيم هذا الحضور من دون أن يبدو ذلك على أنه اضطهاد ديني وعنصري. قد يبدو القائمون بعملية تهجير المسيحيين وكأنهم يخدمون من حيث لا يدرون مصالح غربية بعيدة المدى.. وقد تكون الحقيقة غير ذلك. بمعنى أنهم يرتكبون جريمة التهجير من أجل خدمة هذه المصالح الغربية البعيدة المدى. وتتقاطع هذه المصالح مع مصلحة إسرائيل الاستراتيجية في تقسيم الشرق الأوسط إلى دويلات طائفية وعنصرية ومذهبية متصارعة على الحدود وعلى المياه وعلى الثروات الطبيعية، بحيث تكون الدولة اليهودية مبررة بيهوديتها.. وبحيث تكون هي القوة المتفوقة وصاحبة العصا الغليظة واليد الطويلة في كل المنطقة. ومن هنا، فإن حركات التطرف الديني التي ترتكب جرائمها بحق المسيحيين، وبحق المسلمين أيضاً، تقدم خدمات مجانية -وربما غير مجانية- لأصحاب مشاريع: 1- التضييق على المسلمين في المجتمعات الغربية وتبرير كراهية الإسلام. 2- توفير التبريرات «الإنسانية» لعملية تسهيل تهجير المسيحيين من الشرق ومن ثم استيعابهم في الدول الغربية. 3- إعداد الأرضية الصالحة لتقسيم دول الشرق على خلفية دينية ومذهبية وعنصرية. والغرب متهم بعدم مواجهة حركات التطرف الديني بالجدية التي يتحدث عنها، لأن جرائم هذه الحركات لا تتناقض مع مصالحه البعيدة المدى. ودول الجوار العربي، (وخاصة إيران وتركيا) متهمة بأنها تتحين الفرص لسقوط العالم العربي في فوضى التهجير والتكفير والإلغاء والتقسيم حتى يصبح كالقصعة التي تتخاطفها الأكلة الجائعة. ما كان للجريمة الجماعية التي تتواصل فصولها الدموية والتدميرية في الشرق الأوسط أن تبلغ هذا المدى من الوحشية المروعة لو لم تتلاقى إرادات ومصالح قوى محلية وخارجية على إضرام نارها، وعلى النفخ في أوارها.. كل لحساب خاص به.. أو لطريدة يسعى لاصطيادها.. برصاص سواه! الكل يعيث في الشرق خراباً وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً!