إنه سؤال يصدر مِن المبالين بمعمق المأساة العراقية: وما المفاجأة في تكريم العراقيين مِن أهل الكتابة والفكر والبحث، كي تفرد له مقالا؟ وعذري أن ما أصاب هذه الفئة يكاد لا يُنسى، فالصوت العالي للسلاح والجهل لا لسواهما، مَن يملكهما هو صاحب الزَّعامة، ودعونا مِن بقية العناوين، فمع هذين الطاغيين لا وجود لآمر ولا ناهٍ. كلُّ شيء منتهك، والآصرة مصيرية بين التخلف والعنف. في هذه الأجواء ما قيمة تكريم كاتب أو باحث أو مؤرخ أو فنان، وهل يعرف طلاب المدارس أسماء مَن كُرموا، وعلى وجه الخصوص جيل الحصار والتنكيل الطائفي. ولولا ما تقدمه صحيفة «المدى» ببغداد من ملفات يومية عن مثقفي العراق مِن أصحاب نهضته الحديثة، لمحت ثقافة الوهم والبؤس أثرهم. نعم، أُكبر تكريم مؤرخ مثل جواد علي، والاحتفاء بمؤلفاته مِن قِبل مكتبة الإسكندرية (1أبريل 2015)، والاحتفاء بالكاتب خالد القشطيني مِن قِبل منتدى الإعلام بدبي (13 مايو 2015). أعاد لي شخصياً هذا التكريم حضور العراق في رواق الثقافة، بعد عزله بسبب أفعال السياسة، فاتحاد الأدباء العراقيين ظل مقصياً من قِبل اتحاد الأدباء العرب، وكان الاعتراض أنه لم يشكل جيشاً أو ميليشيا مقاومة ضد الأميركيين، وهي نكتة في وضع المنطقة الساخر! كرّم منتدى دبي القشطيني، بعد أكثر من ستين عاماً في كتابة العمود الصحفي، وقد حكم العمر أن يتعكز على عصا، وكان قلقاً من صعود المنصة، حتى رفض الصعود إذا لم أسنده إليها، إلا أن القائمين على المنتدى كانوا مستعدين، فارتقى على كرسي متحرك، وكنت أواسيه بعد دخوله الخامسة والثمانين بما شاع في كتب الأدب والنوادر القديمة: «قالوا أنينك طول الليل يُسهرنا/ فما الذي تشتكي؟ قلتُ الثمانينا». إلا أن أحد الصحفيين يبدو لم يحسن تهنئة القشطيني مما زاد على الثمانين ثقلاً، عندما قال له: «أنا أخذتها منذ سنوات»، مِن دون كلمة مبروك! تألم القشطيني لكلمته. ولا أدري هل صاحبنا قاس فوز القشطيني على الوضع العراقي المتردي! وكأنه يريد القول: هل بقى بالعراق مَن يُحتفى به؟! مع ذلك ربّما نكون بسبب أحوال بلدنا حساسين، وبهذا نعذره. سررتُ وأنا أرى الشَّباب الإماراتيين والعراقيين يحيطون بالقشطيني، وكأنهم اكتشفوه أول مرة، وأخذت دور المصور لهم معه. أكمل منتدى دبي بهجتنا بتكريم مؤرخنا العتيد جواد علي مِن قبل مكتبة الأسكندرية، وذلك بعقد ندوة خاصة لأعماله التاريخية، وجمع مركز المخطوطات في المكتبة أبحاثه ونشرها في مجلدين بعنوان «الآثار العربية: منتخبات من أبحاث المؤرخ الدكتور جواد علي». جاء التكريم بعد إهمال عراقي رسمي لمناسبة مرور مئة عام على ولادته، وقد عبّر الإعلام المصري عن تراث هذا المؤرخ العراقي بالآتي: «ويعد هذا العمل البحثي المتميز للمؤرخ العلامة الدكتور جواد علي، واحداً من أهمِّ الأعمال البحثية التي يعمل مركز المخطوطات بمكتبة الإسكندرية على إخراجها في صورة علمية رصينة». فالعلّامة جواد علي عاش ثمانين عاماً (1907-1987)، قضى أربعين منها في تصنيف سِفره «المُفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» (عشرة مجلدات ضخام)، أي قضى فيه نصف عمره. هذا هو العالِم لا يعد ساعات العمل ولا ينتظر الجائزة. كتب في المقدمة قائلا: «أديته بعد تعب لا أملك أكبر منه». ظل مؤرخنا منصرفاً للعلم فحسب، وهو مجال دقيق، لا يُحسب بالوقت، وعلى صاحبه أن لا يُخالطه بانشغال آخر. وهنا أُذكِّر بعبارة فيلسوف المعتزلة البصري إبراهيم بن سيار النَّظام (ت بين 221 و231هـ): «العلم شيء لا يعطيك بعضه حتى تعطيه كلك» (البغدادي، تاريخ بغداد). أربعون عاماً انقضت في كتاب واحد، وبقية العمر في كتب أُخر وتدريس. ووسط هذا الشغف لم تبق لجواد علي أمنية في مركز أو وزارة، وقد وضعهما عبد الكريم قاسم (قُتل 1963) بين يديه. أجد في حياة هذا العالم درساً لمَنْ تعشعش الطائفية في أدمغتهم وضمائرهم، لا حباً بطائفة بل حباً بالوجاهة عبر حشد الجموع. خلاف هؤلاء يتحدر مؤرخنا من الكاظمية ودرس في مدرسة الإمام أبي حنيفة. كان أستاذه ومرجعه العلمي طوال حياته الفقيه والأديب محمد بهجة الأثري (ت 1996)، وهو الذي اقترح له عنوان «المفصل..»، وظلا متلازمين حتى وفاة التلميذ. ختاماً، الشّكر لمنتدى دبي للإعلام، ولمكتبة الأسكندرية، فقد خففا عنا بعض الألم لما يجري ببلاد الشَّمس والماء، وما يجول بنواحيها مِن مصائب نراها «ثقالا تشكي وطئهن فراتُ».