في عام 1995 نشرت نصاً عنوانه "قراءة استشرافية لخريطة المجتمع الكوني الجديد" ضمنته في كتابي "الوعي التاريخي والثورة الكونية، حوار الحضارات في عالم متغير" (القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، الطبعة الثانية 1995) وهذا النص كان محاولة لاستشراف شكل العالم بعد التغيرات الكبرى التي لحقته. ونحن الآن في عام 2015 أي أنه مضى على هذا الاستشراف المستقبلي عشرون عاما كاملة! وهي– في نظر زمان العولمة المتسارع- تعتبر نصاً قديماً يجوز أن تكون نبوءاته قد تجاوزتها الأحداث العالمية والإقليمية والمحلية المتسارعة. ولذلك فكرت أن أطرح أبرز هذه النبوءات لكي نحكم على مدى صحتها وموضوعيتها في ضوء ما تم فعلاً من وقائع، وما حدث من ظواهر سياسية واقتصادية وسياسية. كنا في النص القديم قد تتبعنا أنماط القراءات المتعددة التي برزت على الساحة الفكرية واستطعنا أن نميز بين ثلاث قراءات أساسية: القراءة الأولى من منظور العلاقات الدولية، حيث يحاول من خلاله الباحثون استخدام مناهج وأدوات التحليل التقليدية في تحليل التغيرات التى لحقت بنمط توازن القوى. والقراءة الثانية من منظور التحليل الثقافي الذي يركز على رؤى العالم المتغيرة، وعلى أنماط القيم، وأنماط التواصل بين المجتمعات وعمليات التفاعل بين الثقافات. والقراءة الثالثة من منظور فلسفة التاريخ. وقد قام بمحاولة التعرف على الملامح الأساسية للمجتمع العالمي "معهد نومورا" اليابانى. لقد قدم النص القديم خريطة واضحة المعالم لبنية المجتمع العولمي الجديد، وكذلك لمجموعة من السيناريوهات المستقبلية لهذا المجتمع وضعها "نادي طوكيو للدراسات الكونية". والخريطة العولمية المرسومة في التقرير تقوم على ركائز ثلاث رئيسية: المؤشرات المتغيرة للمجتمع الكوني، والفواعل المتغيرة في المجتمع الكوني، وبنية المجتمع الكوني البازغ. أولاً: المؤشرات المتغيرة للمجتمع الكوني: يعرض التقرير عشرة مؤشرات متغيرة للمجتمع الكوني -لن يتسع المقام للتفصيل في كل منها– ولذلك نقنع بمجرد الإشارة إلى أبرز الأفكار المتعلقة بكل مؤشر. المؤشر الأول انهيار الإيديولوجية: الشراكة العولمية والعلاقات الثلاثية الأطراف: بعد نهاية الاستقطاب الإيديولوجي الحاد بين الرأسمالية والشيوعية، يمكن القول: إن الأعوام الماضية شهدت انهياراً سريعاً في التركيز على الإيديولوجية في المجتمع الكونى. وبالرغم من أن أنماطاً متعددة من الليبرالية والعقائد الدينية ستستمر في القيام بأدوار إيديولوجية، فإنها لن تكون هي العوامل التصادمية الرئيسية في المجتمع العالمى. وهناك ثلاثة سيناريوهات لشكل العلاقة المعقدة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي واليابان، فقد تحل هذه المنافسة الضارية من خلال حلول سلمية، أو قد ينجم عنها انقسامات سياسية وثقافية بين الشرق والغرب، أو قد يحدث تقارب بين الاتحاد الأوروبى والياباني. المؤشر الثاني: هو بزوغ سوق عولمية اقتصادية. المؤشر الثالث: هو زيادة تعقيد البعد العسكرى. المؤشر الرابع: يتعلق بالديمقراطية من ناحية تزايد أشكالها والاختلافات بينها وضعف قواعدها وخصوصاً في العالم الثالث وفي الدول الاشتراكية السابقة، مما قد يفتح الباب أمام صور من القومية المتطرفة. المؤشر الخامس: هو التعددية الثقافية، والتي قد تأخذ أشكالاً عدة من المقاومة ضد موجات العولمة الثقافية التي تنزع إلى توحيد أساليب الحياة في العالم. المؤشر السادس: يتعلق بصعود قيم حقوق الإنسان والديمقراطية والبيئة. المؤشر السابع: هو السيادة البازغة للطبقة الوسطى في المجتمع العالمي. المؤشر الثامن: يتعلق بتوقع حركات كبرى للسكان في العالم. وهذه الحركات ستتم نتيجة ظروف متعددة. وقد يترتب على ذلك تصاعد موجات العنف القبلية والإثنية. وإذا وضعنا هذه الروافد الثلاثة لحركات السكان متجاورين، فمعنى ذلك أننا سنشهد في العقود القادمة، أكبر تحركات للسكان منذ إنشاء الدول الحديثة. المؤشر التاسع: هو عالمية العلم في مقابل قومية التكنولوجيا، سيصبح العلم والتكنولوجيا وليست الإيديولوجية هما المحرك الأساسي للمجتمع الكوني. ونتيجة لثورة الاتصالات أصبحت كونية العلم حقيقة واقعة بحكم سهولة الاتصال بين العلماء في مختلف أنحاء العالم. المؤشر العاشر: والأخير يتعلق بالزيادة الدرامية في الأنشطة الدولية غير المشروعة، وأبرزها السوق السوداء في السلاح والتجارة غير المشروعة في الأسلحة الذرية التكتيكية. وتجارة المخدرات، وبالإضافة إلى ذلك احتمال زيادة معدلات الإرهاب. لو نظرنا نظرة نقدية لهذه المؤشرات لوصلنا إلى نتيجة أساسية مبناها أن هذه المؤشرات العشرة تحققت في الواقع جميعا، مما يعطينا الثقة على قدرة العلوم الاجتماعية على التنبؤ الدقيق بمسارات المجتمع العالمي. ربما التحفظ الوحيد أن العبارة التي وردت في المؤشر العاشر، وهي احتمال زيادة معدلات الإرهاب، ثبت خطأها البين لأن الاحتمال أصبح حقيقة واضحة، بعد أن أصبح الإرهاب هو الظاهرة التي تملأ الدنيا وتشغل الناس!