لا أكتب هذه الكلمة مفصلاً لعقيدة أو فكرة المهدي المنتظر، ولا أغور في أصل الانتظار لدى الأديان والمذاهب، ولكلِّ دين ومذهب مهديه. إنما أكتب ذلك لرسائل وصلتني يتحداني أصحابها بالنزول إلى ساحة المناظرة، بعد الكتابة عمَن استغل الفوضى وخصوبة الفكرة، وعن الذين لا يدعون حدثاً إلا ربطوه بعلامات الظُّهور، مع علمنا أن المهدوية في جوهرها فكرة سياسية مِن متعلقات العدل والإمامة. أعلم لو أنني قَبلتُ بالنزول إلى ميدان المناظرة، وسط الحشود المنتظرة القسط والعدل، لقُطعت في أول جولة، لأنهم يتحدثون بالمرويات، كأنهم يرون مهديهم بعد رؤية اليماني والسُّفياني، بل سيثبتون بالدَّليل، الذي يسحر الجماهير، بأن الخسف بجيش السُّفياني سيكون في يوم كذا وكذا، وسيعدون لي أيام الشُّهور التي يتحرك فيها، والأمكنة التي يقود إليها أتباعه، مثلما هي مفصلة في الكتب الطَّاردة للعقل، وعندها عليَّ السُّكوت، فخشية مِن الهزيمة لم أجب على رسائل التّحدي. لستُ بصدد تأكيد الفكرة أو نفيها، فلو أُخذت كعقيدة دينية ويؤول أمرها إلى الله، مثلما اشترطها الأولون، لما خرج المئات عبر التَّاريخ يدعون أنهم مهديون، بل إن أحزاباً سياسية تدعي أنها تشيد العمران وسمت نفسها «جند الإمام»، ولو قلتُ هذا جديد على الفكرة نفسها حيث أدخلها الإسلام السياسي لأتوني بأضابير مِن الأحاديث على تأكيد وجودهم قبل قرون، لكنَّ المُمَهدين عندما يستلمون السُّلطة يمنعون حتى الأمل بظهور مهدي بعدهم. سبق وعاش المكيون أيام عسيرة، عند احتلال الحرم المكي (1979)، بقيادة جهيمان العتيبي (أعدم 1980)، وأخذ البيعة مِن أتباعه للمهدي المنتظر، وهناك بالسودان ظهر منتظر أيضاً، وبمصر ظهر مهديون منتظرون، وبالعراق أكثر مِن مهدي ومُمَهدين، بل إن رجل دين اعتبر حسين الحوثي (قُتل 2004) وحركته ضمن المسار المهدوي، بينما سبق أن اعتبر مهدي البصرة دجالاً. أقول: ما هو القياس بين الحقيقة والدَّجل؟ صدرت كتب كثيرة في المنتظر، وذلك لشدة العاصفة المهدوية في زمننا بالتحديد، كلها تتحدث كأنه سيظهر اليوم، وما مِن حدث غريب إلا وتعلق به الممهدون كعلامة للظهور، حتى الثَّورة الإيرانية عُدت مرحلةً تمهيدية، مع أن الأولين أفتوا بأن علمه عند الله، مثلاً وسط ساحة التحرير بالقاهرة، وخلال الاضطرابات، ادعى شخص أنه المنتظر، وأخذ يُجيب على أسئلة الجمهور بثقة عجيبة. بعد الكتاب والمؤرخين شغلت المهدوية الشُّعراء القدماء مثل كُثير عزَّة (ت 105هـ)، عندما قال لمحمد بن الحنفية (ت 88هـ) على أنه المهدي: «تغيَّب لا يُرى فيـهم زمــانًــا/ بـرَضْوَى عـنده عـسلٌ وماءُ» (الأصفهاني، كتاب الأغاني)، والسَّيد الحميري الذي قال: «يا شعب رضوى ما لمَن بك لا يُرى/وبنا إليـك مـِن الصَّبابة أولقُ» (الدِّيوان). إلى المعاصرين كعبد الله البردوني (ت 1999) وقصيدته (1990) «على باب المهدي المنتظر» (ديوان جواب العصور)، وقطعاً لم يقصد مهدياً بعينه. إن الجديد في خصوبة الفكرة أن حوادث اليمن الأخيرة فسرت بها، على أن ما جرى تم ضمن التَّمهيد المهدوي؛ على رواية: «ثم يخرج ملك مِن صنعاء أبيض كالقطن اسمه حسين أو حسن، فيذهب بخروجه غُمر الفتن...». ورد هذا في «بحار الأنوار» للمجلسي (ت 1111هـ)، الذي أفرد جزئين (مِن 110 أجزاء) لحياة المنتظر، وكم مِن كتب صدرت واختلفت في علامات الظّهور، مثل «القول المختصر في علامات المنتظر» لابن حجر الهيتمي (ت 974هـ). إذا كان المسلمون يعتقدون مَن لا يؤمن بالمهدي وظهوره ليس بمسلم، فلماذا يُخاض بهذه الفكرة، وتُقدم مع كل حركة سياسية وثورة؟ وإذا كان هذا «الأبيض كالقطن» هو الحسين الحوثي، فهذا قد قُتل قبل أن يملأها قسطاً وعدلاً! مثلما يُنقل عما يفعله المهدي المنتظر عند خروجه. لكن ما نفع اليمن بشعار مدون في المساجد «الله أكبر، الموت لأميركا...»! فربما بعد فترة ستتخلى صاحبة الشّعار الجمهورية الإسلامية الإيرانية عن شعارها، فمصالحة أميركا قادمة. لا ننسى أن توظيف الفكرة بنسختها السُنية أسفرت عن وجود «الأحمدية» بباكستان، بينما قادت نسختها الشيعية إلى وجود «ولاية الفقيه»، وما حولها مِن شدة انشقاق بين علماء المذهب، ومنفعة حكام يحكمون على أنهم ممهدون للظهور، ولم يمهدوا شيئاً، بقدر ما مهدوا لمناصبهم واصطياد حطام المال، كذلك أسفرت عن وجود «البابية والبهائية» كديانة مستقلة. أقول: إلى أين سيقود التّحرك بالعقيدة سياسياً بعد؟ إنها فكرة خصبة التفرع والانشطار إذا لم تبق عقيدة أمرها إلى الله، مثلما رسم لها الأولون.