في أرجاء عدة من العالم العربي يدور سباق دموي مروّع بين حلول عسكرية لتكريس انتصار فئة على فئة في المجتمع الواحد، وبين حلول سياسية يدعو إليها المجتمع الدولي تعبيراً عن عجز وحكمة في آن. لا الانتصارات العسكرية ممكنة ولا التسويات السياسية تتقدّم، وحيثما انحفرت جبهات وخطوط تماس على الأرض، بين الحارات والشوارع والبيوت، تخرج كل الحلول من إطار العقل والمعقول، ويتبادل المتقاتلون حرمان بعضهم بعضاً من أبسط مقوّمات العيش، مغرقين الأهل في المآسي إذ تعزّ عليها لقمة العيش ويموت الأطفال جوعاً وتذوب الأمهات حسرةً ويقضي المسنون كمداً. وفي خضم هذا التدهور الإنساني يبقى فقد الأحباء الأكثر إيلاماً لكن الفجيعة الأكبر تكمن في فقد الأمل. وفي الأسبوعين الأخيرين مرّت في الأخبار رسالتان نُسبت أولاهما إلى شاب سوري قيل إنه كان كتبها قبل أن يغرق وتُنتشل جثته من مياه المتوسط قبالة الشواطئ الإيطالية. أما الثانية فهي لشاب لبناني استفزّه خطاب الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصرالله وقد استعدى فيه السعودية مدافعاً عن "الحوثيين" ضد ما سماه عدواناً على اليمن، ويروي الشاب (وهو شيعي غير مناوئ لـ «حزب الله») التحوّلات التي فرضها زعيم الحزب على شيعة لبنان. كثير من الألم والحقائق في نصّين بالغي الواقعية تتنافس الشكوك بشأن أصالتهما وصحتهما، أي بمصداقيتهما. وسواء كُتبا فعلاً بيدي صاحبيهما، أو أن هناك من كتبهما نيابة عنهما، فإن الوقائع التي تشغل سطورهما لا تعكس أحوال أبناء شعب أو طائفة معينة فحسب بل تفصّل بوضوح جسامة الضغوط التي يتعرّض لها الناس في ظل الحروب الأهلية ومدى التضاؤل في طموحاتهم حين يصبح أدنى حد أدنى من العيش الطبيعي ضرباً من المستحيل. وفيما بدا الشاب الغارق نموذجاً للسوري اليائس لكن المتفلّت، بعدما خسر كل شيء، فركب مخاطر القوارب المتهالكة بحثاً عن أمل، جهر الآخر اللبناني بنقمة مكظومة من انجراف الأهل والطائفة والحزب في منزلق الحروب. أكثر ما تعبّر عنه رسالة السوري الغارق، الذي لم يستطع الحصول على صفة «المهاجر غير الشرعي»، أن ما اضطرّه للمخاطرة أمران ظن أن أمواج البحر ستكون أكثر رحمة منهما: الفقر والحرب. يعتذر لأمه لأنه أورثها ديوناً زائدة هي أجر رحلة الأمل/ الموت التي أقدم عليها، ويقول «لا تحزني إن لم يجدوا جثتي، فبماذا ستفيدك الآن إلا بتكاليف نقل وشحن ودفن وعزاء. أنا آسف يا أمي لأن الحرب حلّت، وكان لا بد لي أن أسافر كغيري من البشر، ولم تكن أحلامي كبيرة بل كانت بحجم علبة دواء لك. أنا آسف يا حبيبتي لأنني بنيت لك بيتاً من الوهم، كوخاً خشبياً جميلاً كما في الأفلام، بعيداً عن البراميل المتفجرة وعن الطائفية والانتماءات العرقية...»، إلى أن يقول: «شكراً لك أيها البحر الذي استقبلتنا بدون فيزا ولا جواز سفر، شكراً للأسماك التي ستتقاسم لحمي ولن تسألني عن ديني ولا انتمائي السياسي.. وشكراً لقنوات الأخبار التي ستتناقل خبر موتنا لمدة خمس دقائق كل ساعة لمدة يومين». الرسالة الأخرى لشخص لا يزال على قيد الحياة وتحتوي على تفاصيل عن النزوح الشيعي المبكر داخل لبنان، بسبب الاعتداءات الإسرائيلية، وعن استشهاد أخوة وأنسباء له في حروب متنقّلة في لبنان ثم في سوريا وغيرها. لكنها تطرح كثيراً من الأسئلة، ومنها: «لماذا نموت في بلاد الله الواسعة وتضيق علينا الحياة في لبنان؟ هل تريدنا أن نحارب الكوكب كله؟ فيما إيران تفاوض على دمنا ولا يسقط لها شاب واحد»؟ وفي حين وجد هذا الشاب أعذاراً لحسن نصرالله وللتضامن معه، على مضض أحياناً، إلا أنه قال له: «أمس استغربت عدم نزول أخي إلى الشارع ليتضامن مع الحوثيين في اليمن. وكان يقرأ مقالات في إعلامك تشتم المملكة العربية السعودية. فقال لي إن شقيقنا يعمل في الإمارات وجارنا يعمل في السعودية وبعضاً من أبناء قريتنا يملكون مقهى في الكويت وغيرهم في قطر والبحرين وكلهم خائفون من تداعيات ما يجري على أرزاقهم ولا أحد منا له مصلحة أو رزق في اليمن»، الى أن يقول: «بعد كل هذه الحروب تعبنا ونريد أن نرتاح». بمقدار ما أن قراءة الرسالتين مؤثرة وممضة، بمقدار ما تلفت إلى أن الواقع يبقى أكثر هولاً من أي نص، لأن الناس تعيشه بلحمها ودمها، ولأنها تموت بطريقة مجانية وتافهة في معظم الأحيان. كاتب ومحلل سياسي- لندن