بدأت كدعاية ثم استحالت نكتة؛ غير أن مؤسس الدولة الأوروبية الجديدة «ليبرلاند» ينبغي أن يُؤخذ على محمل الجد. من خلال تأسيسه «ليبرلاند»، استوحى السياسي التشيكي فيت جدليكا الفكرة من مثال الأميركي هيتون جريميا. فالعام الماضي، سافر هيتون إلى جزء من الصحراء بين مصر والسودان لا يطالب به أحد، وأقام مملكة شمال السودان هناك حتى تكون ابنته البالغة سبع سنوات أميرة لها، وتمهيداً لهذه الخطوة، كان «هيتون» قد بحث في مفهوم «الأرض الخلاء» التي كانت تسمح للامبراطوريات في القرون السابقة بإعلان سيادتها على الأراضي التي تُكتشف حديثا، ثم بحث عن أماكن مازالت تنطبق عليها هذه التسمية، فوافقت هدفه قطعة أرض رملية وصخرية غير مأهولة تعرف باسم «بير طويل» وتبلغ مساحتها 800 ميل مربع، ورفع عليها علماً ساهم أطفاله في تصميمه. وعلى ما يبدو، فإن «جدليكا» تفوّق على «هيتون»، ذلك أن الأرض التي اختارها لدولته في الخامس عشر من أبريل، ونصب عليها علم دولته أيضاً، تبدو مناسبة أكثر للعيش، وإنْ كانت غير مأهولة الآن. وتقع منطقة «جورنجا سيجا» على نهر الدانوب بين «صربيا وكرواتيا»، ولا تطالب بها أي من الدولتين عقب نزاع حدودي. صحيح أن مساحتها لا تجاوز 3 أميال مربعة من الغابات، ولكن علينا أن نتذكر هنا أن موناكو أصغر من ميل مربع وهي بلد حقيقي. ويقال إن «جدليكا» يرغب في تأسيس مدينة فاضلة تزدهر فيها الحقوق الفردية، ويبلغ عدد سكانها زهاء 35 ألف نسمة، أي قرابة نفس عدد سكان «ليشتنشتاين»، وهي دويلة أوروبية صغيرة أخرى. وحسب تصوره، فإن السكان سينتخبون برلماناً دائماً، ولكنهم سيتخذون قرارتهم في الغالب عبر الاستفتاءات، على غرار الديمقراطية المباشرة في سويسرا المجاورة و نظام التصويت الإلكتروني في إيستونيا. ويمكن للبلاد أن تعتمد عملة على شاكلة «البيتوكوين» حتى لا تحتاج لبنك مركزي. وعوض نظام ضريبي تقليدي، يمكن للناس أن يقرروا ما يريدونه من الدولة والثمن الذين يرغبون في دفعه من أجل ذلك، وفي هذا الصدد، يعتقد «جدليكا» أن الكثير من الأشياء التي نعتبرها خدمات حكومية يمكن أن يوفرها المتطوعون، وعلى سبيل المثال، فليس من الضروري أن يكون الإطفائيون موظفين عموميين. وإذا كان المشروع يبدو غير مدروس تماماً، فهو كذلك. ذلك أن «جدليكا» لم يبدأ في التفكير في التفاصيل إلا بعد أن فاق الاهتمام بمشروعه توقعاته. ذلك أنه منذ أن أسس «ليبرلاند» الأسبوع الماضي، حصلت صفحته على موقع «فيسبوك» على أكثر من 109 آلاف إعجاب. كما تهافتت وسائل إعلام دولية، مثل مجلة تايم وقناة فوكس نيوز، إضافة إلى عدد من وسائل الإعلام الأوروبية، على إجراء مقابلات صحفية معه. وسافر صحفيون تشيكيون وصربيون إلى جورنجا سيجا (غير أن حرس الحدود الكرواتيين لم يسمحوا لبعضهم بالدخول). وبدأ الناس يتصلون به، ويعرضون عليه أشياء مثل إقامة خدمة الإنترنت، بل إن بعضهم عرض تأسيس بنك. ويقول جدليكا مازحاً إنه يدير واحدا من أكثر مكاتب الهجرة ازدحاما في العالم، نظراً لأن ثمة الكثير من طلبات الحصول على الجنسية التي يتعين على فريق مؤلف من سبعة أشخاص فقط النظر فيها، كما يقول. الإعلان عن تأسيس بلد على أرض خلاء يختلف اختلافا كبيراً عن عيش مجموعة من الناس على أرض تديرها حكومة. وعلى سبيل المثال، فحتى سكان «كريستيانيا»، «المدينة الحرة» الفوضوية في كوبنهاجن، يدفعون ضرائب دنماركية. غير أنه خلافا لأجدادنا وخلافا للمكتشفين والرواد والمستعمرين الأوائل، لم تتح لنا أبدا فرصة للتجريب ومعرفة كيف سيحكم الناس المعاصرون أنفسهم إنْ هم مُنحوا الفرصة للقيام بذلك. وربما نستطيع القيام بذلك على نحو مختلف عما قام به هؤلاء بالنظر إلى تقدمنا التكنولوجي، وآرائنا الحالية حول العرق والنوع، واستعدادنا الأكبر للسلم. غير أن مصير مشروع «جدليكا» قد يكون الفشل، للأسف؛ لأن نصب علم لا يكفي لإعمار أرض خلاء؛ إذ سيتعين على الناس أن يستقروا في «ليبرلاند» فعلياً، وهو أمر من غير المرجح أبدا أن تسمح به صربيا وكرواتيا، ثم إن جدليكا قد لا يستحق بلداً، لأن استعداداته لتأسيس دولة يطغى عليها الكثير من الفوضى. ـ ـ ـ محلل سياسي مقيم في برلين ينشر بترتيب خاص مع خدمة «واشنطن بوست وبلوميبرج نيوز سيرفس»