لا يمكن فهم الصراع القائم في الشرق الأوسط دون معرفة عميقة للمكون السُني الشيعي الذي استغل كحصان طروادة لإيصال المنطقة للحظة استسلام كلي للقوى المتربصة بها، حيث تعمل كل قوة إقليمية كبرى على تحديد منطقة نفوذ تتبعها، أو لا تخرج عن الخطوط العريضة للمخرجات النهائية التي تأمل أن تصل إليها. والمفارقة أن انتشار ثقافة التيارات والتنظيمات الراديكالية التي تعمل على مستويات مختلفة لتأجيج الصراع والنفوذ الطائفي والجيوسياسي- مع محدودية البدائل لمعالجة جذور صعودها لارتباطها بمخططات كبرى تتعدى المنطقة واختيار مناهج للمعالجة - تنقصه الشجاعة الكافية للمضي قدماً نحو شرق أوسط لم يتحرر بعد من استعمار التبعية العمياء لموروثه الديني والاجتماعي والفكري والثقافي والاجتماعي، لتتحول شعوبه إلى مجرد مراكب خشبية صغيرة يحملها «تسونامي» العولمة والهيمنة لأماكن لا خيار لها في الذهاب إليها، ما بين تأرجح في مراكز الثقل في المنطقة من جهة ومحاولة الحفاظ على توازن القوى من جهة أخرى، وهو نهج دائماً ما يقود للفوضى، لأن النتيجة هي عدم دعم أي قوة معينة، ففي حين كان يقدم من يقود العالم الغربي المعلومات الاستخباراتية ضد «الحوثيين» وحلفائهم الإيرانيين، فإنه يقدم الدعم للشيعة في العراق وسوريا. فما يدور في الشرق الأوسط اليوم سيبرز حتماً دور تركيا صاحبة أكبر جيش في المنطقة، فإنها تراقب بقلق الفوضى على طول حدودها الجنوبية، وتصاعد التوتر في القوقاز، والصراع عبر البحر الأسود. ولن تترد أنقرة في انتقاد طهران وتتهمها بالسعي إلى الهيمنة على المنطقة في دهاء دبلوماسية «قل ما لا تفعله» و«افعل ما لم تقله»، وحلم زعامة العالم السُني كرمانة الميزان الإقليمي بجانب المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون وإيران وأجندات متشابكة لبسط النفوذ وتوازن المنافع. والملفت للنظر في السيناريو الحالي للوضع في المنطقة، هو التفاوت في التقارب والتعاون المبني على تحالفات الموقف، والتحول السريع لتحالف آخر بينما لا يزال التحالف الأول قائماً والدخول الجماعي عربياً وإسلامياً لساحة البراجماتية السياسية المحضة، وحلول مصطلح التعايش تدريجياً كبديل شرعي بدلاً من التعاون، ومن تُشيطنة اليوم تُسوق له الأعذار والمبررات وتصفه بالصديق في متغيرات الحسبة الاستراتيجية غداً. ولذلك ترى الصفقات والاتفاقيات التي تغيرها الحكومات باستمرار حتى وفق المصلحة الشهرية ضرورة ملحة في سباق الرمزية والدلالات السياسة المفتوحة واتخاذ ما تراه مناسباً لتحقيق أمنها الداخلي، وإنْ كنت أومن بأن الأمن الداخلي يبدأ من آخر نقطة ليس في حدود الجار فقط بل أقرب جيرانه المتاخمين. وأتمنى أن يجد العقلاء في البيت العربي أهمية البعد عن تقسيم الأمن القومي العربي مقابل كسب أو تأمين حدودي ضيق أو نفوذ مناطقي لا يكون جماعياً، ولا يضع مصالح الشعوب العربية أولاً ، والأضرار بالسيادة الكلية، وذلك كموقف بعض الدول العربية من جماعات الإسلام السياسي، وتعاملها مع الخصوم والتهديدات والوقوع في وهم أن الأمن والاقتصاد والطموح السياسي فقط من يقررون من يفعل ماذا وكيف ومتى. فالشرق الأوسط يشهد تغييرات جذرية عديدة قد لا يكون بعضها ملموساً أو مرئياً في مكوناته وبنيته الأساسية، ولكن تأثيرها سيرسم خريطة جديدة للمنطقة قبل أن يفعل ذلك الآخرون، وهو ما يغفل عنه الكثير من صناع القرار في حروب مذهبية وإمبريالية ناعمة ستستمر لعقود من الزمن بشكل أو بآخر، وترهق الجميع مع تهميش الصراع العربي - الإسرائيلي، حيث إن اللاعبين الدوليين والإقليميين، لديهم أولويات أكثر إلحاحاً بكثير، فأزمة الصراع العربي - الإيراني، ومشروع الفوضى الخلاقة، والنزاعات حول مصادر الماء والأمن الغذائي وتأمين الحدود والممرات المائية الحيوية والعوز المعرفي والتقني، كلها أمور لن تدع مجالاً في عقل المخطط السياسي الإستراتيجي العربي للتفكير خارج حدود دولته والتقوقع داخلياً إنْ صح التعبير لإحداث الموازنة بين التنمية والنمو وتأمين وجوده وتلبيةاحتياجات المواطن الأولية. فكانت النتيجة الطبيعية هي التخلي عن تفضيل تقاليد دبلوماسية «القوة الناعمة»، مستبعدين تحول الحامي التاريخي لحرامي تاريخي، مما قد يقود للسقوط في دوامة الحلول المرتجلة وإضاعة الوقت والجهد والمال في سبيل معرفة الآخر، وكيف يفكر قبل معرفة النفس، وإيجاد طريقة تفكير موضوعية للاكتفاء الذاتي بالتعاون مع الآخر وليس العكس. فمن سيملئ الفراغ الناجم عن الحذر الأميركي في ظل التأهب الصيني الروسي وتغيير الشركاء الاستراتيجيين في المنطقة من قبل واشنطن وغيرها، وهو تطور في الواقع أصبح واضحاً بالفعل في الحرب ضد «داعش» والحزم مع «الحوثيين»، فهل تأخر الوقت وأصبح الشرق الأوسط المذهبي الجديد واقعاً وبرميل بارود في حلق السلام العالمي؟ كاتب وباحث إماراتي في شؤون التعايش السلمي وحوار الثقافات