في ملتقى «الاتحاد» الأخير والمتميز حول الإرهاب، خرجت كما سبق وأن كتبت بخلاصتين اثنتين صالحتين لإيجاد مخرج معقول للأزمات الخانقة والعاتية التي يمر بها العديد من الأوطان العربية. أما الأولى فتوحي بمسلّمة مفادها أن الإرهاب مصيبة آزفة وداهية عظمى ليس لها من دون الله كاشفة، وأن الإرهاب لا دين له ولا ملة، فالإرهابيون لا يردون بالمنطق العام بل الشائعات، ولا يجادلون بالحسنى بل يرفعون على الدوام عصا التهديد وسلاح الاغتيال، ولا يواجهون بالعفو والتسامح بل بالعنف والعدوان. وهم يكذبون ويتهمون غيرهم بالكذب، يحرّفون ويتهمون غيرهم بالتحريف، يزيفون ويتهمون غيرهم بالتزييف، ولسان حالهم العاثر يقول: من ليس معنا فهو علينا، ومن لم يتبع منطقنا فلا منطق له، ومن لا يؤمن بأهدافنا فهو آثم باغ، ومن يقف في طريقنا فهو «كافر مرتد»! وكل من درس أو قرأ في الطب النفسي يعرف أن من خصائص مرض الذهان أن يلجأ المصاب به إلى الإفراط في المنطَقَة والتوكيد، ولكنه يجنح في ذلك إلى منطقه الخاص لا إلى المنطق العام، ويسرف في التصورات الشخصية غير الواقعية، ويعجز عن مطابقة فهمه وتصوره وتعبيره مع الواقع، ومن ثم فهو يعيش في حالة من الفصام بينه وبين الحياة السوية السليمة الواقعية. والخلاصة الثانية هي أن الأزمات لا تحل بمعالجة نتائجها، بل لابد من قطع أصل الداء وإزالته بشكل نهائي وإجراء عملية جراحية مفصلية فيها الفلاح للبلاد ولمستقبل الأجيال والعباد... أما الحلول السطحية فنتائجها محدودة ومسكّنة لوقت قصير.. لا غير. وقد طالبت في الملتقى، كما طالب بذلك آخرون وفي مناسبات عدة كالأستاذ عبدالإله بلقزيز، بالتدخل المحمود من الدولة العربية في الشأن الديني، فالدولة العلمانية نفسها تأتي أشكالاً منه حيث تضع قواعد العلاقة بينها وبين الدين ومؤسساته على مقتضى الاستقلال والاحترام المتبادل. ولو لم يقع هذا النوع من التدخل القانوني للدولة، قصد رسم الحدود بين المجالين، ما كان للعلاقة بينهما أن تستقيم من تلقاء ذاتها. ويمكن للدولة أن تقرر مجموعة من المبادئ، دستورياً وقانونياً، تنص على أن الإسلام ملكية عامة للمجتمع والشعب ينبغي تنميتها عن طريق التربية والتكوين والتعليم والبحث العلمي، وأن تكرس حرية الاجتهاد في الدين وتضمنه، من دون التدخل فيه بدعوى احترام مذهب الدولة الفقهي أو الكلامي. وأن توفر لحق ممارسة الشعائر قنواته ومؤسساته، وأن تمنع أي فئة من أن تفرض رأيها على فئات أخرى بالإكراه، حيث «لا إكراه في الدين»، وأن تعتني بأوضاع العاملين في مؤسسات العلم الديني، من مجالس علمية ودور إفتاء ووزارات وأوقاف، بما يحميهم من غائلة ابتزاز المال السياسي. وهذه حقوق للمجتمع على الدولة ينبغي عليها سدادها عملاً بمبدأ أن الأمة والجماعة هما حاضنة الملة ومن يذبُّ عنها. ولكن أداء هذه الحقوق يقترن بدور، رديف، عليها أن تنهض به ضماناً للمبدأ عينه، هو منع استغلال الدين في السياسة والصراع السياسي، وعليها هي -كدولة- منع القوى السياسية في المجتمع من إتيان ذلك الاستغلال تماماً كما يمكنها أن تمنع نفسها مثلاً، من انتهاك حقوق الإنسان أو التعدي على الحريات العامة، ومنع قوى المجتمع من الأمر ذاته. إن تدخل الدولة في الشأن الديني في هذه الحال، تدخل لصالح المجتمع ولصالح الدين وليس ضدهما، وهو ما يبرر لنا تسميته بالتدخل الحميد. هذا من جهة. ومن جهة أخرى، تتعين إعادة جذرية لهيكلة بنية السلطات السياسية العربية بكل مكوناتها بدءاً من القمة أي مراكز القرار إلى المستويات الأدنى في المجال السياسي والمجتمعي العام. وما يقع من تفريخ للإرهاب وسوء للتنمية في الوطن العربي مرده إلى سوء السياسات. وما قاله مؤلفو كتاب «التنمية الإنسانية العربية في القرن الحادي والعشرين: أولوية التمكين»، (تحرير بهجت قرني) الذي صدر مؤخراً عن «مركز دراسات الوحدة العربية» من أن تأخير التنمية العربية ليس ناجماً عن نقص الموارد، وإنما عن سوء السياسات، أي أن تعثر مسار التنمية ليس قدَراً مفروضاً على المنطقة العربية، بل هو نتيجة قصور محدد ناتج عن إدارة قاصرة للموارد المتاحة، فنفس الشيء يمكن أن يقال أيضاً عن الإرهاب فهو في كثير من تجلياته نتيجة لسوء سياسات متعددة أوصلت بعض الجماعات المتطرفة والفاعلين إلى ما وصلوا إليه اليوم، ولله الأمر من قبل ومن بعد.